بإقرارها قانون “قيصر لحماية المدنيين السوريين” اعتمدت الإدارة الأمريكية السابقة إستراتيجية الضغط الأقصى،استنزافاً لنظام الإبادة الأسديّ لإرغامه على القبول بالحلّ السياسي وفق قرار مجلس الأمن 2254، مستفيدة من مرونته-القانون-في الجانب الإنساني التي تتيح لها المناورة ترهيباً حيناً وترغيباً حيناً آخر، وصولاً إلى تحقيق أهداف القانون، ويكون مرتكزاً يحول دون الاستثمار السياسي والاقتصادي لانتصارات النظام وروسيا وإيران العسكرية، فتُطوى صفحة إعادة الإعمار، وتُلغى مشاريع الطرق البرية من طهران إلى بيروت، وتتهشّم مخطّطات الهيمنة الفارسية على مزيد من العواصم العربية.
بالتأكيد لم تُسقط العقوبات أنظمة استبدادية، ولكنها في الحالة السورية، جعلت النظام مستثمراً فيها، فحوّل الشعب رهينة وموضوع مقايضة، واستمرّ في محاولاته الالتفاف والتحايل على آثارها بأساليب شتّى، كلما ضاق الخناق بعقوبات أشدّ. لكن إدارة بايدن جعلت القانون حبراً على ورق مع تغيّر أولوياتها الإستراتيجية والسياسية، وعدّها “الأزمة” السورية تبعاً لملفات أوسع مع إيران من جهة، ومع روسيا من جهة أخرى.
إن ضبابية الموقف الأمريكي من القضية السورية، وحالة الاسترخاء واللامبالاة في مواجهة متغيّرات المنطقة، دفع القوى المتصارعة إقليمياً ودولياً إلى إعادة ترتيب أولوياتها، إذ ظهرت تحالفات جديدة، وانهارت توافقات، كان يُظنّ أنها قوية، وتلوح في الأفق اصطفافات كانت عصيّة على الخيال، لتثبت ألّا عداوة أو صداقة دائمة في السياسة. فبعد التنازلات الأمريكية لروسيا مقابل تمديد العمل بقرار المساعدات الإنسانية العابرة للحدود إثر قمة بايدن – بوتين، بدأ قلع أنياب قانون قيصر بالموافقة على فتح المعابر بين النظام والمعارضة، وهو ما يعني أن النظام سيتحكّم بمرور المساعدات الإنسانية، بالإضافة للعمل بآلية “التعافي المبكّر”، مما يضفي قبولاً-ولو شكلياً- لشرعنة التعامل مع النظام، زِد على ذلك تغيّر اللهجة الأمريكية من الحديث عن لا شرعية النظام وانتخاباته، والقطع معه ومطاردة المموّلين والمطبّعين والمتعاونين، إلى العزف على وتر أوهام تغيير سلوكه، وبقائه.
لكن تصريح ملك الأردن “الأسد باقٍ”، بعد اجتماعه ببايدنجاء مدشّناً قلع ما تبقّى لقيصر من أنياب، فباستثناء الأردنّ من عقوبات القانون، وفتح المعابر الحدودية ليستنشق اقتصاده من “رئته” السورية، صار ثمن هوائه، انقلاب النظام وحلفائه على تسوية 2018 مع درعا، وكان يعمل على ذلك، ليحلّ دمارهاوتهجير أهلها وسفح دماء مدنييها وشبابها انتقاماً لرفضهم انتخاباته، ضارباً عرض الحائط توافقاً دولياً حول الجنوب، مستثمراً تغيّرات المواقف الإقليمية والدولية، كمقدمة لنهاية المراهنة على الحلّ المتضمّن بالقرارات الدولية، ولتكون الخطوة الأمريكية ضوءاً أخضر للبنان، للعمل على استجرار الكهرباء المصرية، وكذلك الغاز، ويُرجّح أنه غاز إسرائيلي، عبر سورية، ردّاً على عزم إيران تزويد لبنان بالنفط عبر الموانئ السورية، فتنفرج أسارير سيسي مصر، وتتسع أحلام كاظمي العراق، وتتسارع خطا إيران صوب درعا، ويتصاعد دور روسيا في إدارة واستثمار الصراع على الأرض، إن كان في الجنوب، حيث إسرائيل وإيران والأردن،أو الشمال، حيث تركيا وقسد المدعومة أمريكياً والمنظمات المتطرفة، أو الشرق، حيث قسد وإيران.
الدومينو الجاري في المنطقة، جعل النظام ينتقل من حافة الحصار الخانق إلى مَنفَسة لجواره المختنق، فصار منقذاً لشعب لبنان من ضائقته، ومتنفّساً للعراق الذي يجهد في دمجه بمجموعة الشام الجديد، ورئة للأردن الذي فتح معابره على وقع القذائف تدكّ حوران، وإيقاع تغيير الديموغرافيا قربه، وحول “إسرائيل”.
لقد تمكّن الروس من توظيف استثناء العامل الإنساني واستثماره كوّةً تفتح أمامه والنظام طريقاً جديدة لاستثناءات اقتصادية تتمظهر بالإنسانية، بينما تعمل لدمج النظام بمحيطه اقتصادياً، وإعادته إلى الساحة العربية مبتزّاً مختلف الفاعلين المذعورين من تمدّد إيران الإيديولوجي والعسكري، ولهذا تتسارع خطوات التطبيع الاقتصادي العربي التفافاً، وهو استثناء يشكّل اختراقاً سياسياً للنظام، ونجاحاً روسياً إيرانياً، بالإضافة لمردوده الاقتصادي الذي سينفث فيه الروح، ليصفع المتوهّمين أنهم يحتضنونه دون إيران، بينما سيقوم باستثمار الجميع، خدمة لبقائه، دون أن يخدم أيّاً منها إلا فيما يخصّ استمراره، عبر اللعب على اختلافاتها وتناقض مصالحها.
إن طيّ الحلّ السياسي المقرّ أممياً والالتفاف عليه عبر الاستثناء الإنساني والاقتصادي، وصولاً للحلّ ببقاء نظام الإبادة وشرعنته وحمايته من المحاسبة، ليكون فاعلاً سورياً وإقليمياً،بعدما قُلعت أنياب قانون قيصر، وصار شريكاً في استمرار مقتلة المدنيين لا حمايتهم، يظهر مدى النفاق الدولي في القول وفعل عكسه، ويدعو السوريين للإمساك بقضيّتهم وتفعيلها، وإن طال الزمن، غير مرتَهَنة إلا للمصلحة الوطنية في سورية حرّة ديمقراطية تعدّدية.