برسمٍ فسيفسائي تشابكَ النقد على امتداد الوطن العربي في محاولة الاضطلاع بتكوين صورة عامة تخدم الإبداع الثقافي/ الأدبي في أنساقه العامة على الغالب، لا التفصيلية المعمقة، ما دفع ثلّة قليلة من الشخصيات النقدية المعروفة، إلى محاولة الفعل في بلورة تجربة نقدية عربية متقدمة، مزدهرة بخصوصيتها، التي تجمع بين تجارب المشارقة والمغاربة، وفي مقدمتها جابر عصفور، مع الاعتراف بوجود عقبات كبيرة، سرقَ جابر عصفور نار النقد من تربيته الأكاديمية في القاهرة وجامعتها الشهيرة، إذ آمن مبكراً بأنه لا صيرورة نقدية واضحة ومطمئنة، ولا تقاليد راسخة في بنية النقد العربي بمعناها العميق، إلا بتطوير المناهج النقدية، بنشأتها الغربية، من أجل السيطرة على النص الأدبي وتفكيكه كما يجب، بما يمثله الأخير من تشكيل حيوي متعدد الإشارات والدلالات، وحمّال أوجه في تفسيره وتأويله، ما يعني إثبات الهوية النقدية بالتوازي مع تفسير مثيلتها الإبداعية.
رتّبت هذه المعادلة على عصفور موقفاً أدبياً/ نقدياً مثيرا، ينهض على طرح مفهوم الحداثة برؤيته الخاصة، إذ رفض مقولة الحداثة بمعناها الضدي مع التراث، ورأى إلى التقاء المقولتين تحت سقف الحتمية التاريخية أو الواقع التاريخي للأدب في سياقه الاجتماعي، في تصور ثوري لجدلية فاقعة ولافتة تضع الحداثة بما هي مُعاصَرَة، في حضن التراث بما هو أصالة، وهو أمر يعتبره عصفور مطلوباً، ومتاحاً جداً، لكنه يستشكل تلك العلاقة بالسؤال الكبير عن هوية ذلك التراث الذي نتفاعل معه، بوصفنا ممارسي الحداثة في راهنيتها ومفهومها اليوم. هو سؤال لا يخصنا وحدنا فهو عامٌّ في كل تاريخ الشعوب في العالم، وينطلق من المضادات الثقافية التي حكمت تراثنا العربي، ويحاول عصفور استجلاءه في رؤيته المرتكزة على اتصال الحداثة مع العناصر الايجابية للتراث، ونبذها لعناصره السلبية، في سبيل الوصول إلى ما يسميه الناقد «حداثة التُّراث» بمعناها الخلاق فعلاً مُناسباً وتفاعلاً مُجدياً مع واقعنا الأدبي/ الثقافي بشكل عام.
في الأصل، لا يغيب عن بال عصفور أن مسألة الحداثة متشعبة جداً، إذ يتنازعها طرفان: الأول رفض الالتزام بالتراث من جهة، والثاني العلاقة المتوترة مع الغربي الوافد من جهة أخرى. وهي علاقة يرى عصفور إلى تفكيكها وتبسيطها، أن يكون الناقدون اليوم منتجين ثقافياً في التعامل مع الغرب. لا استهلاكيين ثقافيين على طريقة الإعجاب بسلعة أو موضة جديدة مُبهِرة لا استمرارية فيها، وكذلك في تعاملنا مع تاريخنا الأدبي في استثماره إيجاباً لا سلباً. تستوجبُ مفاعيل هذا التوجه الإقرار بأنّ تقليد شاعر عربي هو عمل مماثل جداً لتقليد آخر غربي، اتفقا في الزمن أو اختلفا، قديماً أو حديثاً، مع تقديم منظور نقديّ ينتج حداثتنا وفق أدوات وأفكار يحملها النقد الحديث، ترفد التخلص الحقبوي التبعيّ للآخر، على ترويكا ثلاثية ذهبية هي التحرر الاقتصادي/ الاجتماعي/ الثقافي، دون أن نتورط في نظرات خاصة لناقدٍ من هنا وآخر من هناك. فقد رفض عصفور مبدأ الخصوصية في الحداثة، بحيث ننخرط في مشروع حداثوي جمعي، ثم ينفلت كل منا بعد ذلك إلى حداثته الخاصة في اختلاف الرؤية والآراء، وهو ما حدث فعلاً في مجموعة مجلة «شعر» مثلاً التي توافقت على مشروعها، ثم بعد ذلك غرّد عديدون منها خارج السرب وبآرائهم الخاصة، ما أدى إلى تشويه الصورة الواضحة الواسعة المكتملة وتحولها إلى مشهدية خاصة جداً لا تخدم الإبداع الثقافي/ الأدبي ولا تغنيه.
لا يتلبّثُ عصفور في التنظير لحداثة التراث، فهو يعطي في التطبيق مثالاً موضوعياً في تعامل الأدب اليوم، شعرا، رواية، مسرحا… مع الأسطورة، حيث تحَوَّلَ تناوُلُها عن الغربي كأساطير أدونيس وسيزيف وتموز إلخ، إلى تراثنا العربي/ الإسلامي مع علاء الدين أو زرقاء اليمامة، السندباد وغيرهم كثير، مما يُعتَبرُ فعلاً حداثوياً في الاتجاهين مع التراث، وصدمة ايجابية في مضمونها، فلكل حداثة صدمة. في كل ذلك تنكّبَ جابر عصفور عن السير في طريق الخصوصية الحداثية العربية بمعناها المعادي للغرب، إذ لا يمكننا أن ننفصل عن العالم من حولنا، لكنه نبّه إلى خطورة السير في التقليد المحض في مراحل زمنية ركبتها موجة الحداثة، كما حصل في حركية الشعر العربي في القرن الماضي مع مجلتي «الآداب» و«شِعر» اللّتين لعبتا دوراً كبيراً جداً في تكريس الحداثة، إنما حداثة التقليد عن الغرب بمعنى الابتعاد عن تقليد الشعر العربي القديم إلى تقليد شعر الغربيين، فكان كلاهما قتلٌ للتحديث والجِدَّة والتحوُّل، ما يفسر – في ما بعد – تشرذم الرواد المؤسسين للمجلتين أعلاه في الرؤية والبعد التنظيري لإمكانية التجديد المأمولة.
أكد جابر عصفور أهميته النقدية دائماً في التركيز على إبداع ثقافي/ أدبي داخل الفضاء العربي لا خارجه كمّاً وكيفاً، والتوجه إلى الإبداع لا الكلام في التجارب الكتابية في أجناسها كافة كي نفهمها جيداً وبعُمق، وحتى لا نقع في مأزق كسل المُبدع وكسل الناقد معاً.
كاتب لبناني
“القدس العربي”