إلى سنة وفاته، عام 2006، كانت (سولاريس) رواية الكاتب البولوني ستانيسلاف ليم (1921-2006)، قد وصلت إلى الشاشتين الصغيرة والكبيرة ثلاث مرات.
ظهرت نسخة تلفزيونية في الاتحاد السوفيتي في عام 1968، ولا يبدو أن أحداً احتفى بها، في ذلك الوقت، وحتى في الأوقات اللاحقة، إلى درجة أنه يصعب العثور على معلومات عن الفريق الذي أنجزها، على شبكة الإنترنت.
أما النسخة السينمائية الأولى، فقد صنعها في عام 1972 العبقري أندريه تاركوفسكي، وظلت حتى الآن، واحدة من أهم وأجمل تجارب سينما الخيال العلمي في التصنيف العامّ، وكذلك في تصنيف آخر يقرأ السينما كمجال فلسفي، يتم فيه طرح الأفكار العميقة عن النفس البشرية، وتأثُّرها وتأثيرها بالعوامل الخارجية، ما يؤدي إلى إعادة تشريحها كطبقات من الصور والمشاعر المتداخلة، يتم فيها تشكيل الماضي، بأمكنته وعناصره المادية، وأيضاً شخوصه، الذين بقوا لسبب أو لآخر عالقين في تكوينها العاطفي، حبّاً أو كراهيةً!
وهذا ما يفعله كوكب سولاريس، الذي توصّفه الرواية كعقل عملاق قوام محيطاته من مادة البلازما، يعطل حيوات رواد الفضاء الذين توجهوا إليه، وبمن فيهم كريس كالفن الرائد المكلَّف بتفحُّص مشكلة الكوكب، حيث يعيد تجسيد شخصية هاري زوجته المنتحرة أمامه عدة مرات، لتحدث في كل مرة مراجعة قاسية للتفاصيل التي بقيت راسخة في عقل صاحبها، ولم تخرج منه.
طريقة معالجة تاركوفسكي، للرواية، بشكل عامّ لم تعجب ستانيسلاف ليم، الذي اتهم المخرج بالابتعاد عن جوهرها، والاشتغال في المقابل على الجماليات البصرية، لكن تاركوفسكي رد بالحديث عن تعلُّق المؤلف بروايته إلى درجة التقديس، بحيث إنه كان يريد أن تظهر على الشاشة بحذافيرها!
رغم ما حصل آنذاك من تبايُن بين الرجلين، إلا أن تقبُّل الفيلم من قِبل الجمهور كان كبيراً فضلاً عن حصوله على الجائزة الكبرى الخاصة للجنة التحكيم في مهرجان “كان”، حيث ترشح للسعفة الذهبية.
النسخة السينمائية الثانية تم طرحها عام 2002 في “هوليود” بتوقيع المخرج ستيفن سودربرج، وحشد لها الكثير، كالنجوم الذين أدوا شخصياتها، لم تعجب ستانيسلاف ليم أيضاً، الذي تردد كثيراً قبل منح الموافقة على بيع حقوقها هذه المرة، ويقال إنه اعتبرها كارثة، ما أعاد إلى الأذهان قول تاركوفسكي بأن الروائي لا يفهم جوهر السينما!
لكن هذه النسخة، وبغض النظر عن موقف مؤلف روايتها الأصلية، لم تلقَ النجاح المطلوب، ومرت سريعاً، لتبقى في ذاكرة محبي الفن السابع نسخة تاركوفسكي ناصعة وملفتة في رفّ أفلامه المؤثرة حتى الآن!
هل انتهى تأثير سولاريس، في الأوساط السينمائية والدرامية؟ لا نستطيع الإجابة بشكل يقينيّ، عن عدد التجارب الدرامية، أو السينمائية التي قامت بمحاكاة المستوى السطحي للثيمة الأساسية في الرواية (تأثير الكوكب في النفس البشرية)، وذلك بسبب الكمّ الهائل من المنتجات السمعية والبصرية التي يتم ضخها كل عام في الأسواق، لكن على الأقل، يمكننا التأكيد ومن خلال ما تنتجه شبكة “نتفليكس”، أن التأثير راسخ، وقابل للتوسع مع تجارب مختلفة لقلب محاور الحكاية، وإنشاء فضاءات مختلفة لها.
إذ لم يَعُدْ مُهِمّاً أن يمضي البشر إلى كوكب بعيد كي يكتشفوا ما يقلقهم، وما يفكك ذواتهم، بل صار من الممكن أن يحدث هذا على كوكب الأرض ذاته، ودون تكبُّد عناء جعل الشخصيات رواد فضاء، بل يمكن أن يحدث هذا مع الجميع، شرط توفُّر عنصر غريب سيبقى مجهولاً طوال الوقت، يؤدي إلى حصول المواقف الدرامية الصادمة، وهي إعادة تجسيد الشخصيات الراحلة، أو إظهار المختفية منها، وغير ذلك، بحيث تتكشف في النهاية الحقائق المخفية، من أن حيوات البشر، تمضي في مسارات كارثية، وهي تحتاج إلى مَن يضعها في مواجهة واقعها، لعلها تصحو من بلادتها، أو تتحرر من الشر المسيطر عليها.
هذا ما شاهدناه في سلسلة (Katla) الأيسلندية التي عرضت في صيف العام الماضي، والتي تروي حكاية قرية تعيش قرب فوهة بركان ثائر، تظهر فيها شخصيات مختفية، تتخلخل عائلاتها، حين تراها، وقد عادت من ماضيها السحيق، لتقودها إلى لحظات مليئة بالعاطفة تارة، وأخرى متخمة ليس بالكوابيس فقط، بل بالجرائم الفعلية، التي تحدث بتأثير أولي/ مفتاحي من بقايا نيزك ضرب المكان، وبتسلسل مُتتالٍ يرتبط بإرث البشر، وتعاطيهم مع الغائبين في الماضي!
أما سلسلة (Archive 81) التي بدأ عرضها كاملة قبل أيام على “نتفليكس” أيضاً، فإنها تقدم تطويراً كبيراً على الثيمة، بطريقة تشويقية، حيث ينطلق الحدث من كشف ما جرى في الماضي، الموثق في أشرطة مُستخرَجة من حريق، دمر بناءً في مدينة نيويورك، وهذا يجعلنا أمام توظيف جديد من أفلام الكاميرات الشخصية، وهو الأسلوب المتبع في سلسلة أفلام الرعب الشهيرة (paranormal activity).
حيث تقود الصورُ الشابَ دان، الذي يعاني من إرث عائلي ثقيل قوامه موت عائلته بحريق أيضاً، إلى اكتشاف تأثير بقايا نيزك سقط في المكان، على نشوء طائفة دينية أصاب الهَوَسُ أعضاءها، فجعلهم يقومون بتقديم الأضحيات البشرية في سبيل فكرة غرائبية، قوامها فتح بوابة عبور بين عالمين، أرضي وكوكبي بعيد!
التبايُن بين القيمة الفنية لهذه المحاكاة لثيمة سولاريس، مع مثيلتها في محاكاة أخرى طبيعيّ جداً، فالمسعى التجاري يطغى على تفاصيل المعالجة، مع تركيز المنتجين على احتمال وجود جزء (موسم) جديد منها.
لكن إلحاح العودة إلى سولاريس -حتى وإن تقنّع بحكاية جديدة، وبسرد مختلف- يقول لنا كمشاهدين أمرين، أولهما وهو المُوجَّه إلى الجمهور، أن البشر عاجزون حتى اللحظة عن كشف ما يُؤرِّقهم بأنفسهم، ما يجعلهم بحاجة لعقل لا يُشبِههم، أقوى منهم، يستطيع أن يفعل بهم الكثير، لكنهم يبقون سجناء لماضيهم ولعوالمهم البائسة.
وثانيهما، وهو الذي يمكن تداوُله بين الجمهور وبين صُنّاع المحتوى السينمائي والدرامي، ويُبنى على أن كل ما يُنتَج تحت إطار الخيال العلمي ما زال رهيناً للتجارب الأولى وأسئلتها العصية، ولا سيما التي قدمها عبقريان كستانلي كوبيرك في (أوديسة الفضاء 2001) الذي تم إنتاجه عام 1968، وأندريه تاركوفسكي في (سولاريس) المُنتَج عام 1972!
“نداء بوست”