مر أسبوع تقريباً على اقتحام قوات تنظيم الدولة “داعش” سجن الصناعة في مدينة الحسكة شمالي سوريا، وأطلق سراح مئات السجناء، ونجحوا في السيطرة على السجن ووقف أعمال الشغب وإعادة النظام إلى ما كان عليه. حوالي 180 شخصاً، من بينهم 50 كردياً و120 مقاتلاً من “داعش” و7 مواطنين قتلوا في الهجوم الذي اعتبر العملية الأكبر لـ”داعش” في سوريا منذ 2019. سيارتان مفخختان انفجرتا قرب السجن، وعشرات مقاتلي “داعش” اقتحموا ودخلوا وأطلقوا النار على الحراس الأكراد وبدأوا يطلقون سراح السجناء. حسب عدة تقارير، استخدم “داعش” نفقاً حفروه للوصول إلى السجن، وتم من خلاله إدخال السلاح والمقاتلين. موثوقية التقرير غير واضحة، لكن يبدو أن المهاجمين استندوا إلى معلومات داخلية ومساعدة من جانب سكان المنطقة، ونسقوا الهجوم حسب الحالة الجوية العاصفة.
بالنسبة للأكراد والقوات الأمريكية التي قدمت لهم مظلة جوية ومساعدة بسيارات مصفحة، أوضح الهجوم أن “داعش” ما زال حياً يرزق، وأنه رغم الإعلانات عن اجتثاثه وانتهاء المعركة ضده، إلا أنه ما زال يستطيع، ليس فقط تنفيذ كمائن متفرقة، بل أيضاً تنفيذ هجوم منسق ومدهش.
في السنوات الثلاث الأخيرة، نفذ “داعش” عشرات الهجمات في العراق، وقتل مئات الجنود والمدنيين والمقاتلين، وأوجد لنفسه منطقة جغرافية جديدة في مدينة ديالي وصلاح الدين وكركوك، التي فيها يركز فيها وحداته ومنها يطلق الهجمات. لا تشابه بين المساحة الجغرافية التي احتلها “داعش” في 2014 عندما سيطر على المحافظات الشرقية والجنوبية في العراق وعلى شمال سوريا. ولكن حقيقة نجاحه في العمل عسكرياً بدون أي رد عراقي، يمكن أن تشير إلى طموحاته الاستراتيجية التي ظهرت. الحادثة التي جرت الأسبوع الماضي في محافظة ديالي في شرق بغداد أوضحت أيضاً أن الجيش العراقي الذي أعيد تأهيله والذي انسحب بذعر من المعركة ضد “داعش” في 2014، إنما هو خدعة كبيرة. الحكومة العراقية نفسها قالت إن الهجوم في ديالي الذي قتل فيه 11 جندياً انتهى بهذه النتيجة المخيفة بسبب إهمال وتقصير من القوات التي أخفقت في الرد بإطلاق النار على المهاجمين.
كان يجب أن يكون في القاعدة العسكرية التي هوجمت 70 جندياً حسب المعايير. ولكن فعلياً كان هناك 12 جندياً فقط. وحسب أقوال أعضاء البرلمان في بغداد، فهذا دليل واضح على عمق الفساد في الجيش وفي وزارة الدفاع المسؤولة عنه. يبدو أن ظاهرة “الجنود الأشباح” لم تجتثّ بعد حتى الآن. هؤلاء جنود مسجلون ضمن القوة البشرية لوحداتهم، بل ويتلقون الرواتب. ولكنهم في الحقيقة غير موجودين. كل تسجيلهم استهدف كسب المزيد من الميزانيات التي تنتقل لجيوب قادتهم. وتتحدث تقارير أخرى عن صيانة معيبة في قواعد الجيش وأضواء لم تعمل، وأجهزة اتصال معطوبة، وبالأساس غياب التنسيق بين الجيش العراقي والقوات الكردية القريبة من المدينة، التي كان يمكنها مساعدة الجنود.
بعد انسحاب القوات الأمريكية من العراق في نهاية كانون الأول مخلفة وراءها مدربين ومرشدين، وعلى خلفية تصريحات متفائلة تم دحضها على الأرض، والتي بحسبها الجيش العراقي وقوات الأمن الأخرى مؤهلة وقادرة على مجابهة التهديدات الداخلية، من بينها “داعش”، فإن في واشنطن وبغداد تزداد مخاوف من أن الولايات المتحدة قد تجد نفسها متورطة مرة أخرى في المعركة العسكرية في الدولة التي انسحبت منها. ولكن ربما يكون التدخل في هذه المرة معقداً أكثر إزاء الظروف السياسية والإقليمية.
ليس العراق وحده هو الذي يكتنفه الضباب السياسي الخطير الذي يمنع تشكيل حكومة جديدة بعد أربعة أشهر على الانتخابات، فالمحادثات النووية مع إيران والإشارات التي حول استعداد النظام الإيراني لإجراء مفاوضات مباشرة مع الولايات المتحدة، ستجبر واشنطن على إظهار المزيد من الحذر إزاء كل ما يتعلق بالتدخل العسكري في العراق. إيران تعتبر الجارة مجالاً حصرياً للهيمنة، وتعتبر نفسها شريكة في تأسيس نظامها السياسي.
مخاوف اردوغان
وفي أوساط شركاء الولايات المتحدة الأكراد في الحرب ضد “داعش” في سوريا، يجري صراع ومواجهات داخلية حول مستقبلهم. هؤلاء منقسمون إلى معسكرين: الأول يعلق آماله على واشنطن، والثاني يميل إلى تعزيز العلاقات مع روسيا والتصالح مع نظام بشار الأسد. “داعش” عدو مشترك للمعسكرين، ولكن إذا استطاع الأمريكيون الاعتماد على جبهة كردية موحدة، فمن الصعب تقدير مستوى الاستعداد لدى الطرفين للتعاون لشن معركة ناجعة.
في 2015 شكلت الولايات المتحدة “القوات السورية الديمقراطية” (اس.دي.اف)، وهي ميليشيا كردية يشارك فيها مقاتلون من أصل عربي وتركماني. ودمجهم استهدف التغطية على الهوية العرقية للميليشيا وعرضها وكأن هدفها العمل ضد “داعش”، مع إزالة مخاوف تركيا من وجود قوة عسكرية كردية نقية. أثناء الحرب ضد “داعش”، أظهرت المليشيا وشركاؤها نجاعة وشجاعة كبيرة وتحولت إلى القوة الأكثر نجاعة في المعركة.
لكن تركيا لم تقتنع بهذا التمويه. وحتى الآن تعتبر القوات الكردية تهديداً لأمنها القومي، خصوصاً بسبب أن اعتبرت مقاتلين من حزب العمال الكردستاني (بي.كا.كا) شركاء كاملين فيها. تطورت على هذه الخلفية مواجهة سياسية بين تركيا وأمريكا، التي يعتبرها الرئيس رجب طيب اردوغان مؤيدة للإرهابيين الذين تحاربهم أنقرة منذ أربعين سنة تقريباً. أحد شروط تركيا الأساسية لترميم العلاقات مع الولايات المتحدة هو وقف تقديم الدعم للأكراد. ولكن تركيا بدأت ترى أن روسيا أيضاً تدعم الأكراد وتعتبرهم عنصراً حيوياً في عملية المصالحة الوطنية التي تحاول، بدون نجاح حتى الآن، الترويج لها في سوريا. عندما أعلن الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، عن قرار سحب القوات من سوريا، رأت أنقرة في ذلك فرصة للسيطرة على مناطق واسعة في شمال سوريا وطرد الأكراد من منطقة الحدود. ولكن الضغط العام والسياسي في الولايات المتحدة ضد قرار ترامب دفعه لتأجيل تنفيذه. المساعدات العسكرية وتمويل الأكراد لم تتوقف، بل ازدادت. وسمح البيت الأبيض لشركة النفط الأمريكية “دلتا كريسنت” بتطوير وتسويق النفط في المناطق الكردية، وبالتالي خلق مصدر دخل جيد للأكراد، رغم أن النفط يعود بشكل رسمي للحكومة السورية. وبيع النفط الكردي لسوريا خرق العقوبات التي فرضتها الادارة الأمريكية على الأسد.
بعد ذلك، قررت إدارة بايدن إلغاء الإعفاء من العقوبات الذي أعطاه ترامب لشركة النفط. ولكن الأكراد الذين يسيطرون على معظم حقول النفط في شمال سوريا يواصلون بيع النفط لنظام الأسد بشروط ممتازة. وترى أنقرة في هذا العمل إثباتات كافية على خيانة الولايات المتحدة لمصالح تركيا. ولكن الأكراد الذين اعتبروا موقف أمريكا دليلاً على التحالف الاستراتيجي مع واشنطن، لم يتوقفوا عن سؤال حول: هل ومتى ستقرر واشنطن إدارة ظهرها لهم وتفضل تركيا عليهم.
خارطة الطرق الكردية
تطورت الخلافات الداخلية الكردية على خلفية ما يعتبر سياسة انفصال لبايدن عن الشرق الأوسط، التي وجدت التعبير في الانسحاب من أفغانستان والعراق. يخاف الأكراد أن تؤدي هذه السياسة إلى انسحاب 700 جندي أمريكي من سوريا. عدم اليقين هذا أثار مؤخراً، خلافات بين المنظمات الأعضاء في “بي.كا.كا” التي تسمى قوة “قنديل”، على اسم جبال قنديل في العراق، التي توجد فيها بؤرة نشاطهم، وبين القوات الكردية السورية الأخرى.
حزب العمال الكردي يدفع نحو المصالحة مع نظام الأسد وصياغة خارطة طرق تضمن حقوق الأكراد ومكانتهم في الحكومة التي ستشكل في أعقابه. بهذا فإنهم يستندون إلى التحالف التقليدي بين الأسد وزعيمهم عبد الله أوجلان، المسجون في تركيا منذ 1999. الجناح الكردي الآخر بقيادة مظلوم عبدي، القائد الأعلى لـ اس.دي.اف يسعى إلى تعميق العلاقة مع الولايات المتحدة ويعتبرها درعاً حيوياً للبقاء العسكري والسياسي لقواته وللمحافظات الكردية ذات الحكم الذاتي، وأيضاً ركيزة ضرورية للصراع الذي يشنه الأكراد ضد تركيا.
الخلافات السياسية خلقت صراعات شخصية بين عبدي والممثل الأعلى لـ”بي.كا.كا”، الدار خليل، على السيطرة على المحافظات الكردية وعلى إملاء الخط السياسي. يمكن للمرء أيضاً أن يجد في هذا المرجل أصابع إيرانية تدعم حزب العمال الكردي وجهوده للمصالحة مع نظام الأسد. بهذا، فهي تريد أن تحقق الهدوء في المحافظات الكردية في الغرب. والنتيجة أنه حسب خارطة تقسيم الولاءات الكردية بين روسيا وسوريا وإيران من جهة، وبين الولايات المتحدة من جهة أخرى، يصعب العثور على المسار الذهبي الذي يمكن بواسطته بناء مصالحة كردية أو التوصل إلى حل سياسي للأزمة في سوريا.
هذه الشروخ بين الحركات والقوات التي يجب عليها إظهار التضامن الاستراتيجي والفكري، هي شروخ يبحث عنها “داعش” من أجل العمل وزيادة قوته. وقد وجدها في سوريا في 2011 عندما منحته الحرب الأهلية والانقسام الداخلي بين مليشيات المتمردين السوريين مجال واسع للعمل. وقد عثر عليها في العراق أيضاً في المواجهات بين الحكومة الشيعية والأقلية السنية التي تمت ملاحقتها واضطهادها من قبل النظام. وهو يحاول زيادة قوته في أفغانستان وفي مناطق التماس بين قوات طالبان. وهكذا فعل في شبه جزيرة سيناء عندما نجح في تجنيد عدد من القبائل البدوية التي عانت من قبضة القاهرة الحديدية.
تعتبر هجمات “داعش” في سوريا والعراق باهتة مقابل حملة الاحتلالات التي قام بها التنظيم سابقاً. ولكن في الفترة التي يبدو فيها نشاط منظمات إرهابية إسلامية، مثل “داعش” والقاعدة بفروعها، منضبطاً أو بعيداً عن الحماسة والتصميم من العقد السابق، يجدر أن نتذكر الرؤية التي تتجاهل وتستخف، والتي ميزت الدول العربية والغرب تجاه هذه التنظيمات في البداية، وبالمفاجأة والصدمة التي نجحت في إحداثها عندما كان يبدو أنه لن تقوم لها قائمة.
بقلم: تسفي برئيل
هآرتس 28/1/2022
“القدس العربي”