رأي الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا أولاند في خلفه إمانويل ماكرون هو أنه يسير على غير هدى، وأنه يميل إلى القفز من موقف إلى آخر ومن مذهب إلى نقيضه مثل ضفدعة على زنابق الماء. كما ينفي أولاند، في كتابه الصادر أخيرا، صفة الوسطيّة عن ماكرون، قائلا إن الأثرياء قد صاروا في عهده أكثر ثراء لأنه يطبق سياسات يمينية مماثلة لسياسات نيكولا ساركوزي.
رأي سبق لساركوزي ذاته أن أثبت صحته. إذ لمّا سئل عن ماكرون أجاب مازجا مزحا بجد: «ماكرون هو أنا، لكن بأحسن وأفضل»! وهذا بالضبط هو الحكم الذي ينطبق في نظري تمام الانطباق عند المقارنة بين رئيس أمريكا السابق دونالد ترامب ورئيس وزراء بريطانيا الحالي (إلى متى؟) بوريس جونسون: أي أن هذا هو ذاك بأحسن وأفضل لأن الأمريكي مجرد مادة خام من الشعبوية الجاهلة الجهلاء، أما البريطاني فهو بمثابة النسخة المنقّاة المصفّاة… بفضل نخبوية التعليم في إيتون وأوكسفورد ومتانة التكوين في مجال اللغات والكلاسيكيات اليونانية واللاتينية.
فلا عجب إذن أن يكون جونسون عارفا بالتاريخ الروماني كثير الاستشهاد بأعلامه. إلا أن شعبويته دائما ما «تبهذل» معرفته. لهذا لا يتورع عن إطلاق أحكام تاريخية لا تختلف في زيفها عن زعمه السياسي بأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيكسبها 350 مليون جنيه في الأسبوع (!) إيهاما لمن كان يحب أن يصدّقه بأن مساهمة بريطانيا في ميزانية الاتحاد إنما كانت هبة من باب العطف والإحسان. هكذا طلع على الناس، قبيل اندلاع مسلسل الفضائح، ليروّج نظرية فحواها أن هنالك علاقة سببيّة بين ظاهرة الهجرة وسقوط الإمبراطورية الرومانية! والغريب أن جونسون كان يتحدث بمنتهى الجد عن وجوب مكافحة الاحتباس الحراري، حيث قال: «إذا تركنا حرارة الكوكب ترتفع، مثلما تشير التوقعات، بأربع درجات أو أكثر، فسيكون لهذا عواقب جيوسياسية خطرة، مثل نقص المواد الغذائية، وتفاقم التصحر، وفقدان المسكن والمأوى (بسبب تزايد الكوارث الطبيعية) والنزاع على الماء والغذاء وتزايد موجات النزوح الكبرى.
جونسون شعبويته مغلفة بمظاهر الثقافة الواسعة التي تبهر شرائح الجمهور ذات الاطلاع المحدود، لكنه في الحقيقة مخادع
وكلها معضلات سيكون من بالغ الصعوبة معالجتها سياسيا». وهذا، كما ترى، كلام معقول. بل إنه مستقى من أبحاث العلماء والخبراء. لكن جونسون سرعان ما انعطف منعطفا مختلفا تماما ليقول فجأة: «عندما سقطت الإمبراطورية الرومانية كان ذلك، في المعظم، نتيجة لعدم قدرتها على الحد من تدفق موجات المهاجرين. إذ لم تعد الإمبراطورية تستطيع مراقبة حدودها، فصارت الجموع تترى من الشرق ومن جميع جهات الأرض، وهكذا دخلت أوروبا في عصور الظلمات التي دامت زمنا مديدا. المغزى هو أن هذا يمكن أن يحدث مجددا. إذ ينبغي على الناس ألّا يركنوا إلى أمان الوهم بأن التاريخ بكرة (شقّاطة) تدور في اتجاه واحد».
وليس من مبرر لهذا القفز المباغت من حديث البيئة إلى فزاعة الهجرة إلا المبرر السياسي الشعبوي: أي دوام مغازلة الجمهور اليميني الذي ما كان ليصوّت بالخروج من الاتحاد الأوروبي لولا كراهيته للمهاجرين وتصديقه لخرافات جونسون العنصرية بشأنهم. ذلك هو الفارق بين شعبوية ترامب الخام وشعبوية جونسون المصفاة. ترامب متحرر من أوجاع المعرفة متخفّف من أوزارها، لذا يتصرف ويتكلم «على البركة». أما جونسون فشعبويته مغلفة بمظاهر الثقافة الواسعة التي تبهر شرائح الجمهور ذات الاطلاع المحدود. لكنه في الحقيقة مخادع لأنه يعرف حق المعرفة أن المؤرخين يعدّدون لسقوط الإمبراطورية الرومانية ثمانية أسباب ليس منها السبب الذي ادّعاه. وإنما هو اختلق خرافة المهاجرين هذه اختلاقا ليحلّها محل السبب المعروف: غزوات «البرابرة» أي القبائل الجرمانية والوندالية الشديدة البأس التي انتصرت على روما في عدة مواقع ثم احتلتها منتصف القرن الخامس. ولهذا تندّرت الكاتبة رتشيل كنليف بأن من يبسّط مسألة معقدة كهذه، بإرجاعها إلى سبب وحيد، فهو كمن يقول إن هنري الثامن ترك الكاثوليكية لمجرد أنه وقع في غرام آن بولن! أما المؤرخة ماري بيرد فقد كتبت: لقد تقصّد جونسون أن يحوّل سقوط الإمبراطورية الرومانية إلى موعظة إيديولوجية عن فضائل البركسيت!
المضحك المبكي في شخصية جونسون الغريبة الأطوار أنه أدمن الاستهتار حتى صار لا يرى ضيرا في تسخير ثقافته النخبوية خادمة لدى سخافته الجماهيرية. فقد ضبط في حوار إذاعي وهو يخلط عن عمد بين بركليس زعيم أثينا الشهير، الذي طالما قال إنه من المعجبين به، وبركليس آخر هو حاكم صور في مسرحية شكسبير. لم الخلط؟ لأن جونسون فكّر بحسّه الشعبوي الماكر فقدّر أن بركليس الشكسبيري أقرب، بريطانيّا، إلى الأذهان وأحسن وقعا على الآذان.
كاتب تونسي
“القدس العربي”