حينما تكون الذاكرة الموروثة جمرا فإنها تحرق من يرثها.
تعددت طرق حكي الحرب الأهلية في إسبانيا، وتنوعت مسالك عرض فصولها، لكن تَلقيها ذاكرةً موروثةً يظل بألم واحد. تستمر الحرب الأهلية في إسبانيا تستوطن حيز الكتابة النقدية المعاصرة في الشغب القيمي نفسه لذاكراتها، لكن بالمسافة الاستشكالية نفسها التي تفرض بها نفسها على من يقلب في سراديب التاريخ الحديث لهذا البلد الإيبيري. تحل فيها ذاكرة متقدة كالجمر تحرق، كما دوما، من يمسك بها أو يُشعِل وقع الكلمات من نقعها. الحرب الأهلية في إسبانيا لم تعن فقط من خاضها، بل تؤرق من يرثها كرها.
لقد أزهقت الحرب الأهلية بين أبناء إسبانيا الفرنكاويين (أنصار الجنرال فرانكو) والجمهوريين من ساعة وقوعها إلى اليوم، وديانا جارية من المداد. إذ كتب العديد من المؤلفين الإسبان عن هذه الحرب، بينهم كتّاب مثل أرتورو باريا وأغستين دي فوكسا، ثم مؤرخين مثل غابرييل جاكسون، وخوان بابلو فوسي، ومانويل تونيون دي لارا، وخافيير توسيل (أي بي سي 2 فبراير/شباط 2019). ولم تجلب حرب في أوروبا كتابا كبارا إليها مثلما جلبت الحرب الأهلية الإسبانية، حيث ينقل، الصحافي الإسباني في صحيفة «الباييس» ميغيل أنخيل فيينا، عن المؤرخ الفرنسي جان لاكتور قوله: «كانت الحرب الأهلية الإسبانية بلا شك حرب الكتاب» (الباييس ديسمبر/كانون الأول 2006). لا يوجد صراع أثار اهتمام الكتاب والمثقفين في جميع أنحاء العالم بقدر تلك المنافسة، ولا حتى الحرب الثانية أثارت مثل هذا السحر. ويذكر لاكوتور أن الصراع جذب إلى إسبانيا بين عامي 1936
و1939، مؤلفين من مكانة بابلو نيرودا، وإرنست همنغواي، وجورج أورويل، وأندريه مالرو، من بين كتاب آخرين كثيرين. ولعل اللافت أن الكتابة عن الحرب الأهلية في إسبانيا تظل محكومة بتطلعات معالجة أزمة «ذاكرة» الحرب الأهلية بالدرجة الأولى، ويجلي أبعاد هذه الواقعة التاريخية والإنسانية بتفاصيل مركبة، الباحث الإسباني خوسي خورادو موراليس أستاذ كرسي الأدب الحديث في جامعة قاديس الإسبانية في كتابه «جنود وآباء حرب وذاكرة وشعر». وهو عمل صادر في سبتمبر/أيلول 2021 عن مؤسسة خوسي مانويل لارا، وحصل من خلاله المؤلِف على جائزة «مانويل ألفارْ للدراسات الإنسانية 2021».
يلتقط هذا العمل، الذي يستغرق ما يقارب 300 صفحة ويمتد عبر فصول تسعة، تفاصيل سرديات شعرية عن الحرب الأهلية، فجرتها ساعة لقاء غير مرتب بين الوعي الشعري وذاكرة الحرب الأهلية الإسبانية عام 1936. يقول خوسي خورادو إن ما يعرضه في كتابه «هو واحد من الأشكال التي تم بها حكي الحرب الأهلية الإسبانية عام 1936». مع ذلك يخلق الكاتب الأندلسي مسافة من المعالجات المتداولة في بلاده عن الحرب الأهلية، وتتحقق على مستوى الإطار التأويلي ومتن الاشتغال نفسه.
يتكلف الشعر في هذا المتن النقدي باستنبات جسر واصل بين الحرب والذاكرة من جهة، والأجيال قبل الحرب وما بعدها من جهة ثانية، لكن ليس على المنوال الذي تشكلت به العلاقة بين الحرب الأهلية والشعر إبان الحرب نفسها، حيث وضع الشعراء الإسبان أقلامهم في خدمة أحد الأطراف المتناحرة، ثم بعد تجاوز مرحلة الخنادق، بدأت مرحلة تمجيد أعمال المتحاربين والإشادة بالأبطال والأموات. ليس على شاكلة الدراسات النقدية والتاريخية والثقافية التي يوجهها الشغف التوثيقي للمتون الشعرية، التي تناولت الحرب الأهلية الإسبانية، ولا على ملة الاشتغالات المتطلعة إلى القبض على ومضة الشعر الانعكاسية والتمثيلية لواقعية الحرب ومآسيها بصفة الشعر مرآة زمانه.
إن خوسي خورادو يشتغل فعلا على الشعر متنا، لكنه يبحث في دوره من خلال واجهة أخرى غير مطروقة، يتعلق الأمر بذاك المتن الشعري لشعراء إسبانٍ تسعةٍ، من بينهم جوان مراغاريت وجاني دوران وخورخي أوروتيا وخاكوبو كورتينيث وميغيل دورس، وبيري روفيرا وأندريس ترابيو وأنطونيو خمينيث ميلان وخوليو يماثاريث، اضطروا في لحظة من لحظات التعبير الشعري لتوجيه أسئلة غير مريحة عبر قصائد شعرية إلى آبائهم، عن مشاركتهم إلى أحد أطراف الحرب الأهلية، لقد كان البحث عن هذه الأجوبة منقادا بعناصر سياق جارف يصب في بناء الهوية والذات، وهذا البناء للذات الحاضرة لا ينفصل عن بناء جسر واصل بالذاكرة، يعتمد عليه تماسكه.
خوسي خورادو يشعل هذا النقاش بهذه الأبعاد، ونفسُه يكتب: «كثيرون ممن بنوا الانتقال الديمقراطي والديمقراطية، أوجدوا أو اختلقوا قصصا نائية من أجل إيجاد سردية حول الحرب والفرانكاوية، لكن كثيرين وجدوا هذه الحكايات في بيوتهم، وكتبوا عما سمعوا من آبائهم عن تجارب حيواتهم السابقة».
الشعر يبدو حسب خلفيات ترتيب المتن الشعري للكتاب، ورط شعراء جيل ما بعد الحرب في الخوض في أمر ذاكرة ملغومة ومفخخة. لا يبدو هنا أن للشعراء خيارا آخر، فالحرب الأهلية تستوطن بيوتهم بالقوة، وأحيانا بمكر لا يستساغ. أحد الشعراء الذين اشتغل عليهم المؤلف تبين أن أسرته القريبة كانت تضم أفرادا ستة شاركوا في الحرب الأهلية الإسبانية: ثلاثة في صف الجمهوريين، وثلاثة فرانكاويون. الحرب قضاء وقدر على البعض، والذاكرة المشكلة معها، يلفيها الشعراء قضاء وقدرا أيضا، والخوض فيها شعريا أمر لا محيد عنه. يقول خوسيه مؤلف الكتاب: «أعتقد أن من يكتب قصيدة عن ماضي أبيه جنديا، لا يكون بصدد تقليد صيحات «الموضة» أو يبحث عن عائد مالي، ولا عن جلب القراء إليه، بل إن الأمر يخضع لمقترحات حياتية وتأملية واجتماعية وعاطفية وأيديولوجية». إن الشعراء العشرة قرروا، على غرار كافكا وحتى فرويد، وإن في سياق مختلف، الكتابة عن الأب، ويسائلون عن مشاركتهم في الحرب الأهلية.
عادة ما تبقى هذه الروايات عن تجربة الأب في الحرب في المجال الخاص، وأحيانا فقط تصل إلى إسقاط عام. هذه هي حالة بعض الشعراء الحاليين الذين استدعوا الأب الذي قاتل في الحرب، في تمرين يحتوي على التوازن الوجودي للشخص، الذي أعطاك الحياة، وفحصا لضمير المرء. إنهم لا يميلون إلى تقديمهم ضحايا أو أبطالا لأي شيء، لكنْ شباب محكوم عليهم بالحرب من خلال فرص فرَضَها التاريخ والعمر. وأوضح خوليو ياماثاريث ذلك في بيت شعري نهائي: «نمت في أيديهم بندقية». يعلق خوسي خورادو مؤلف الكتاب: «أنا لا أفرق بين الجانبين الآن، أنا أتحدث عن الآباء والأبناء وعن عاطفة مشتركة، لأن الذاكرة الموروثة تضع العاطفة في قلب الذاكرة».
الشعراء الإسبان التسعة، في هذه الدراسة التي صيغت بنَفَس سردي، ألفوا أنفسهم في معركة شعرية لتصريف الذاكرة الملتهبة والحارقة، التي ورثوها عن الحرب الأهلية الإسبانية عام 1936. إن الذاكرة الموروثة يبدو أنها تنمو بين أنامل الشعراء، وهم يخطون أحرفهم الشعرية، ويقتفون آثار هويتهم في التاريخ، كما «نمت البندقية بين أنامل» من فُرِضت عليهم الحرب.
إن علاقة الشعراء التسعة في قصائدهم بآبائهم، إبان عملية الاستقصاء الشعري عن دواعي المشاركة في الحرب الأهلية، لم يكن إلا تمريناً على الذاكرة. لا تجنح سردياتهم الشعرية إلى تمجيد «الفضائل التي من المفترض أن يتمسك بها الجنود مثل الشجاعة والثبات والصبر والتواضع والخضوع والحب والشرف الذي يصاحب الروح العسكرية. على العكس من ذلك، فإن (هؤلاء الشعراء) كانوا يقللون من المكون البطولي ويؤكدون على البعد الحساس، وفوق معايير الأيديولوجيات والزي الرسمي لكل جانب، يبقى فقط هناك مظهر الانفعالات والمشاعر في البعض وفي البعض الآخر».
إن الأمر إذن يتعلق بذاكرة موروثة عن الحرب الأهلية، واجهها دون اختيار شعراء، فرضها واقع حرب على آبائهم، كما فُرضت عليهم الذاكرة الحارقة.
لقد استغرق أمر صياغة مصطلح «الذاكرة الموروثة» جهدا نقديا ونظريا بذله المؤلف في كتابه «جنود وآباء حرب وذاكرة وشعر» ليحملها الشرط التاريخي والنفسي والواقعي، لتجربة التمرين على الذاكرة، فقد تطرق قبله إلى مصطلح «ما بعد الذاكرة» التي غزلت خيوطه الباحثة مريان هيرش، وهي تعالج الذاكرة المتوارثة عن مرحلة النازيين والهولوكوست. ويستقر اختيار خوسي خورادو على مصطلح «الذاكرة الموروثة» التي استخدمها مفكرون معاصرون بدلا من «ما بعد الذاكرة» ، بحجة أنها الأقدر على ترجمة وضع الذاكرة عن الحرب الأهلية الإسبانية، بالنسبة إلى أجيال ما بعد الحرب في إسبانيا، وتستوعب في نفس الآن قدرية هذه الذاكرة وحتميتها في تلقف الأجيال اللاحقة لها، إذ لا يكاد يخلو بيت إسباني من فرد شارك على نحو ما في تلك الحرب، بما فيه بيت المؤلف نفسه. إن الإسبان، خاصة الشعراء منهم يُلْفونَ أناملهم تَنشأ بينها ذاكرتهم الموروثة عن الحرب الأهلية.
كاتب مغربي
“القدس العربي”