عبد الرحمن بدوي (1917-2002) قامة ثقافية عربية شاهقة، ظل يكتب ويبحث ويترجم ويحقق المخطوطات، منذ سنوات الأربعين من القرن العشرين، وحذق أكثر من لغة عالمية؛ فهو يجيد اللغات الفرنسية والإيطالية والألمانية، وإن كان يقول إنه يجيد تسع لغات! وأكثر كتبه مثيرة للنقاش ومحركة للعقل، كتب عن «شخصيات قلقة في الإسلام» سلمان الفارسي، والحلاج المصلوب، وعمر السهروردي، المصلوب هو الآخر! وقرأت كتابيه «من تاريخ الإلحاد في الإسلام» و»دراسات المستشرقين» الصادر سنة 2016، فضلاً عن قراءات في كتابه الأهم «الزمان الوجودي» الصادرة طبعته الأولى سنة 1945، وكانت ترجمته لرواية «دون كيخوتة» للروائي الإسباني ثرفانتس، عملاً رائعاً، ترى هل ترجمها بدوي عن اللغة القشتالية القديمة، التي كتبها بها ثرفانتس وشاركه في كتابتها العربي الأندلسي سيدي حامد بن الجيلي، أم أنه نقلها عن الإسبانية الحديثة؟
وقد حصل عبد الرحمن بدوي على درجة الماجستير سنة 1938عن رسالته «مشكلة الموت في الفلسفة المعاصرة» وحين نوقشت أطروحته للدكتوراه «الزمان الوجودي» سنة 1944، الذي بقي ضمن أروع ما كتب، ينسب إلى طه حسين، وكان عميداً لكلية الآداب في جامعة فؤاد الأول (القاهرة حالياً) قوله: الآن أصبح لدينا فيلسوف مصري!
عبد الرحمن بدوي الذي ناف عمره على الثمانين سنة، وأمضى أكثر هذا العمر باحثاً ودارساً، وجاب العديد من أصقاع الدنيا وبقاعها، واستقر أخريات أيامه في باريس، ليموت فيها ميتة مؤسفة في تموز/يوليو 2002، مغادراً بلده مصر منذ سنوات السبعين من القرن العشرين، عاملاً في الجامعات الليبية، شاهراً سخطه على سياسات الرئيس جمال عبد الناصر، ولا سيما قرارات ما عرف بالإصلاح الزراعي، معلناً تشفيه برحيله المأساوي في 28 أيلول/ سبتمبر 1970.
وقد أصدرت المؤسسة العربية للدراسات سنة 2000 مذكراته الشخصية في جزأين تحت عنوان «قصة حياتي» التي يسرد فيها مسيرة العمر الطويل هذا. والسيرة الذاتية لون من ألوان الكتابة دخل حياتنا الثقافية وشيكاً، ولعل من أوائل من كتب فيه جورج حنا الكاتب اللبناني في «قبل المغيب» وميخائيل نعيمة في «سبعون» بأجزائه الثلاثة، وقد نشره سنة 1959 لمناسبة بلوغه السبعين عمرا، وقد سبقهم طه حسين إلى ذلك في كتابه «الأيام» فضلاً عن كتابه الآخر «مذكرات طه حسين» الذي أصدرته دار الآداب اللبنانية سنة 1967، ويجب أن لا ننسى «خارج المكان» لإدوارد سعيد، في حين كان الغربيون سباقون إلى الكتابة في هذا اللون الأدبي، وفي الذاكرة مذكرات الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو، وإذا كنا في الشرق نقترب من الخصوصيات بحذر ووجل، فإن بعض الكتاب في المغرب العربي، قد عروا ذواتهم أمام القارئ، وإذا كانت الشاعرة فدوى طوقان جريئة في الاقتراب من البوح الذاتي في سيرتها الذاتية «رحلة جبلية.. رحلة صعبة» وكذلك الشاعرة المصرية جليلة رضا، التي أصدرت كتابا سمته «صفحات من حياتي» ويجب أن لا ننسى نشر غادة السمان الرسائل الخاصة، التي كان يرسلها إليها غسان كنفاني، فضلاً عن رسائل الشاعر أنسي الحاج، وما كتبته نوال السعداوي، فإن الروائي والكاتب المغربي محمد شكري، أسقط حتى ورقة التوت في روايته «الخبز الحافي» ومنع تداولها في عديد البلدان.
عبد الرحمن بدوي، الذي نشر مذكراته في جزأين، نافا على السبعمئة صفحة، ما تحدث عن ذاته كما تحدث الآخرون، بل صب جام غضبه وصواعق سخطه على مجايليه؛ كل مجايليه ومزامليه، من رموز الثقافة والأدب والسياسة في مصر، لا بل لم ينج منه حتى من كان اختصاصه بعيدا عن مجالات اشتغاله، إذ صب على الطبيب علي إبراهيم الجراح الخاص للملك فاروق، صب سخطه شأنه شأن آخرين، فهو يهاجم أحمد أمين ويصفه بالحقود ضيق الأفق، وتظل صفة الحقود تطلق على العديد من رموز الثقافة والفلسفة، فعبد الرحمن عزام؛ أول أمين عام لجامعة الدول العربية حين تأسيسها سنة 1945، والأستاذ الجامعي، حقود هو الآخر، ويضيف إليه صفات أخرى؛ المتقلب الأهواء، التافه الجهول.
صحيح أن كتابة ديورانت في مجال الفلسفة قد لا ترقى إلى كتابات الفيلسوف البريطاني برتراند رسل، أو منجزات سارتر، لكن ليس من الصحيح أن توصف كتاباته بهذه الصفات.
أما طه حسين، الذي كان له فضل واسع عليه، إذ ساعده على زيارة عدد من الدول الأوروبية: فرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، كي يزيد ملكاته اللغوية من خلال المعايشة هناك، يوم كان طه حسين عميدا لكلية الآداب، وبدوي ما انفك طالباً فيها، والإيفاد إلى هذه الدول، كان مقتصراً على أساتذة الكلية، فبذل طه حسين كل جهده الوظيفي والمعنوي، من أجل إيفاد هذا الطالب المتفوق الذكي، كي يزيد مهاراته اللغوية، وعلى الرغم من أفضال طه حسين عليه، فإنه يصف كتابه «حديث الأربعاء» كونه لا يؤلف وحدة موضوعية متصلة، بل هو في الغالب انطباعات متناثرة ولمحات قصيرة!
قد نؤيده لو كان محقا في أحكامه، لكنها كانت صادرة عن هوى ونفس ولم تكن صادرة عن عقل يزن أحكامه وأقواله، فإذا كان هذا حاله مع أستاذه طه حسين، الذي أسدى له كل ذلك الفضل والمعروف، فما بالك بالذي سيصبه على رأس زكي نجيب محمود، أو أحمد فؤاد الأهواني، اللذين نافساه على شغل وظيفة أستاذ الفلسفة في الجامعة، فيصف كتابات زكي نجيب محمود بالكتابة الأدبية، في محاولة منه لغمز قناة الكتابة الأدبية، على أساس أنها مبنية على العاطفة والخيال، كما يصف كتابات زكي بأنها غير عميقة، ولا ترقى إلى مستوى كتابات طالب في المرحلة الإعدادية، وإنها تلخيص ساذج لكتابات الباحث الأمريكي وول ديورانت، التي ضمها كتابه «قصة الفلسفة» ولم ينج وول ديورانت هو الآخر من شواظ آراء بدوي، إذ يصف كتابه «قصة الفلسفة» بالكتاب التافه جداً والسطحي جداً.
صحيح أن كتابة ديورانت في مجال الفلسفة قد لا ترقى إلى كتابات الفيلسوف البريطاني برتراند رسل، أو منجزات سارتر، لكن ليس من الصحيح أن توصف كتاباته بهذه الصفات.
الذي أفجعني حقا في مذكرات بدوي؛ وهو المفكر الفيلسوف، أو المشتغل في مباحث الفلسفة، والباحث عن فسحة حرية في الكتابة، أن يضيق صدره بكتابات عباس محمود العقاد، فيستأجر بعض الشقاة للاعتداء عليه، إذ كتب العقاد أكثر من مقال ضد جماعة (مصر الفتاة) التي أسسها السياسي المصري أحمد حسين، وكان بدوي من أعضاء هذه الجماعة، وقد رد أحدهم على العقاد، لكن بدوي الفيلسوف، لم يرق له ذلك، فأوعز إلى اثنين من أنصار جماعته بالترصد للعقاد عند عودته ليلاً إلى منزله، قائلا: «وكان من رأيي أن العقاد يرحب بهذه المقالات، فلا علاج له عن هذا الطريق، بل لا بد من استخدام العنف معه (الصحيح. ضده) لأنه لا يردعه إلا العنف، وأخذ برأيي اثنان من أعضاء الجماعة، فتربصا للعقاد وهو عائد إلى بيته وانهالا عليه بالضرب والصفع والركل، وأفهماه أن هذا تأديب مبدئي، بسبب مقالتين ضد مصر الفتاة، فإن عاد عادا إليه بما هو أشد نكالاً، وأحدثت هذه (العلقة) أثرها الحاسم فخرس العقاد خرساً تاماً، ولم يعد إلى الكتابة ضد مصر الفتاة». وهنيئا لك يا عبد الرحمن بدوي، وهكذا يكون الفيلسوف والأستاذ الجامعي وإلا فلا! وإذ أوعز بدوي بضرب العقاد، وإذ وصف كتابات بعضهم بالسطحية، فإنه لم يستطع نعت كتابات العقاد بهذه النعوت، يصرح إنه لا يحب كتابات العقاد، مع أني أرى أن كتابات العقاد من الكوى الشامخة، والمعالم الباهرة على طريق الثقافة والأدب والفكر والتاريخ، إنه لا يرغب في قراءة كتب العقاد، ولا ما كتب عن العقاد، وإذ اعتدى عليه لخلافه معه فكراً، فإنه لم يوفر سهام حقده عن أحمد حسين مؤسس جماعة مصر الفتاة، التي كان بدوي عضوا فيها، وصاحب المؤلفات الفكرية وأثراها كتابه «الطاقة الإنسانية» فاتهمه بـ(ضيق الأفق).
حتى الأصوات التي وضعها الله في حناجر الناس، لم تسلم من سهام بدوي، وهذه ليس للإنسان يد فيها، إنها خلقة الله وفطرته التي فطر الناس عليها، إذ يصف صوت محمود فوزي وزير خارجية مصر، ومن ثم الجمهورية العربية المتحدة، بعد وحدة مصر وسوريا في شباط/فبراير 1958، يصف صوته بأنه يشبه مواء القطط المخنوقة، وهو يلقي خطابه من على منبر هيئة الأمم المتحدة، وهي تناقش قضية العدوان الثلاثي؛ البريطاني، الفرنسي، الصهيوني، ضد مصر خريف سنة 1956، في حين يشيد إشادة بالغة بفصاحة أبا إيبان وزير خارجية الكيان الصهيوني في ذلك الوقت، وصوته الجهوري الأخاذ.
إن مذكرات الباحث والمترجم الضليع عبد الرحمن بدوي، نموذج لانفصام الذات الكاتبة عن جماليات الكتابة، وهو صورة للإنسان غير المؤتلف مع مجتمعه ومع الأشياء، فظل نزيل فنادق باريس، عازبا متوحدا متغربا مهاجرا حتى مغادرته الحياة في يوليو 2002، حيث نقلته السفارة المصرية في باريس ليدفن في ثرى بلده مصر.
كاتب عراقي
“القدس العربي”