أثارت وفاة الكاتب المصري سيد القمني كثيراً من ردود الفعل، التي اتفق معظمهما على ضعف المحتوى الفكري والمنهجي لكتاباته، في مواجهة صعود الإسلام السياسي في العالم العربي. وباستثناء فئة محدودة من قرّائه القدماء المخلصين، التي اعتبرت أنه كان «فارس التنوير العربي»، أجمع ما يمكن اعتبارهما التيارين الأيديولوجيين الأساسيين حالياً في العالم العربي: الإسلام السياسي بعد كل «المراجعات» التي أجراها؛ والتيار «المدني»، الأقرب لطروحات اليسار الغربي المعاصر، على أن القمني ظل متمسكاً بشكل متشنّج بثنائية تجاوزها الزمن، أي الصراع بين الإسلاميين والعلمانيين، فضلاً عن اعتماده على مفاهيم فقيرة حول الحداثة والتنوير والإسلام.
قد يبدو هذا النمط من النقد متجنّياً بعض الشيء بحق الكاتب الراحل، فهو لم يقدّم كتاباته يوماً بوصفها بحثاً أكاديمياً، أو تجديداً في دراسات الحداثة والإسلام، بل كتب للعموم، في عصر صعود الإسلام السياسي، محاولاً مواجهة موجة الأسلمة العارمة التي شهدها، فضلاً عن أن الحديث عن فقر مفاهيمه يغفل الأسئلة الأساسية التي حرّكته، والتي لم تكن أكثر من انعكاس لطروحات «الصحوة الإسلامية» نفسها: هل الإسلام فعلاً هو الحل؟ هل العصور الإسلامية الأولى كانت عصوراً ذهبية؟ وهل الحداثة والعلمانية مؤامرة على الأمة وهويتها؟ وبالتالي فإن فقر مفاهيم القمني، لا يعبّر إلا عن الحالة السياسية والأيديولوجية العامة في العالم العربي في الربع الأخير من القرن العشرين.
إلا ان النقد الشديد لكتابات القمني، قد لا يكون بسبب عجزه عن طرح أسئلة وإشكاليات جديدة، بقدر عاملين أيديولوجيين مركزيين في عصرنا: أولهما بروز حالة من التصالح، أو تأجيل الخلافات، بين الإسلاميين والعلمانيين قبيل الربيع العربي، وتركيز الطرفين على مواجهة الأنظمة الاستبدادية. وهو ائتلاف مؤقت سرعان ما انهار بعد فشل الثورات، والممارسات السياسية المتخبّطة للقوى الإسلامية والمدنية. ليأتي عامل ثانٍ، منع تصاعد الخلاف الأيديولوجي بين الطرفين من جديد، وهو اكتشاف منجم من الكتابات، الصادرة عن أكاديميات غربية، تحاول نقد النظرة التقليدية للإسلام، خاصة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر. وتركّز على نقد الحداثة والتنوير والعلمانية.
النهم في ترجمة وقراءة هذه الإعمال دون غيرها، سواء من قبل الإسلاميين ودور النشر المقرّبة إليهم، أو من قبل كثير من «المدنيين»، المتأثرين باليسار بعد الكولونيالي في الغرب، أو حتى سياسات الهوية الأقرب لليسار الليبرالي، جعل سيد القمني يبدو شديد التخلّف. هو لم يقرأ حتى «الغرب» الذي طالما اعتبره مثالاً.
رغم هذا ربما لا تكون إشكاليات وثنائيات القمني مُتجاوزة لهذه الدرجة. فالبحث في طروحات نقّاده من الطرفين قد تبيّن أن كل «المفاهيم والمناهج الجديدة» التي يتبنونها، ما زالت تدور في الحلقات المفرغة نفسها، التي أفنى بها حياته، وبأسلوب لا يقل تشنّجاً. فما أهم تلك الحلقات المفرغة؟ ولماذا يصعب تجاوز الفقر المفاهيمي لمعارك التحديث العربية؟
مشكلة الدولة
بات من المألوف الحديث عن مشكلة بنيوية في «الدولة الحديثة»، التي طالما حلم بها القمني ومجايلوه من المفكرين «التنويريين». فهي قائمة على أنماط متشابكة من الإقصاء، وأحيانا الإبادة والتطهير؛ الهندسة الاجتماعية؛ تعالي السيادة وأولوية الهيمنة على حساب العوامل الاجتماعية والأخلاقية؛ إضافةً لقيامها بدورها على أساطير مؤسسة، ما يزيل الفارق المُدّعى بين عقلانية علمانية ونزعة خرافية تنسب عادة إلى الأديان. فضلاً عن أن الدول الحديثة ارتكبت ممارسات عنيفة ودموية تجعل الحديث عن «عنف ديني» متجذّر لا معنى له.
إلا أن هذا الطرح يدفع للتساؤل عن المغزى السياسي لتفكيك أساطير الدولة الحديثة، هل المطلوب إجراء انقلاب في علاقات القوة والهيمنة، لمصلحة من همّشتهم العقلانية والمركزية الغربية البيضاء، نحو مزيد من «التمييز الإيجابي»، الضامن للعدالة أكثر من المساواة داخل المنظومة القائمة، على طريقة جانب من اليسار الغربي؟ أم استعادة منظومات سابقة للحداثة، وإعادة تشغيلها كأن شيئا لم يحدث منذ القرن الثامن عشر، مثل «التقليد الإسلامي»، أو حتى «خلافة إسلامية» تتيح إعادة بناء الكينونة والذوات الإسلامية، التي شتتها الاستعمار والحداثة، ومنعاها من التعبير عن نفسها، بحسب سلمان سيد أستاذ النظرية بعد الكولونيالية في جامعة ليدز البريطانية؟
يبدو أن «الغرب» ما يزال يشكل عقدة أساسية للتفكير العربي والإسلامي حول أي قضية. اعتقد سيد القمني أن «الصحوة الإسلامية» تعيق العالم العربي والإسلامي عن الأخذ بأسباب التحديث، المتجسّدة في الدول الغربية.
في الواقع يصعب فصل مثل هذه الأفكار، رغم كل انتقادها للحداثة، عن الطروحات الكلاسيكية للتنوير والتنوير المضاد، فنقد الدولة والتهميش والهيمنة، وكذلك العقلانية والاستعمار والتصنيع، كان دوماً طرحاً مرتبطاً بالتيارات المتعارضة والمتشابكة للتنوير منذ نشأته. أنصار التنوير المضاد مثلاً، ومنهم الرومانتيكيون الأوروبيون، وجّهوا منذ القرن التاسع عشر نقداً أخلاقياً شديداً للحداثة، وبحثوا عن عصور سابقة لها، بريئة من كل التأطير القمعي العقلاني الحديث للحيوية الإنسانية؛ فيما دافع أنصار التنوير المحافظ عن التقليد، وانتقدوا جموح الدول القومية في إعادة صياغة التقاليد والانتماءات الاجتماعية؛ أما بعض التنويريين الراديكاليين فحلموا بيوم تضمحلّ به الدولة نفسها.
الأهم أن أياً من هذه الانتقادات، رغم كل سخريتها من الكونية والإنسانية، لا تستطيع التنازل عن خطاب ومُثل عالمية في طرحها: عندما يكتب أستاذ جامعي غربي باللغة الإنكليزية إدانةً ما للحداثة، فهو يفترض نوعاً من قيم عمومية مشتركة، عقلانية وعابرة للثقافات، وإلا كيف يتوقّع أن ممارسات ما، مثل القمع أو التهميش أو القتل، ستصبح قرينة لإثبات سوء منظومة ما بنظر كل قرّائه؛ فيما قد يكون تبيان تناقضات التحديث توسيعاً له، وصيانة له من أزماته الأساسية. يبدو ألا خلاص من «سجن» التنوير وإشكالياته.
كان سيد القمني، على «بدائية» أدواته ومناهجه، عالقاً في إشكاليات مماثلة، معتبراً أن المشكلة «غزو وهابي» متخلّف قضى على تنوّر بلاده. فيما يبتكر نقّاده اليوم عدواً جديداً، ربما لا يقل خرافية، رجلا أبيض؛ استعمارا، تحديثا وعقلانية قمعية؛ قطع مسيرة البشرية السابقة للحداثة، التي بات يُنظر إليها برومانسية شديدة. الأهم أن كثيراً من نقّاد القمني يقومون مثله باختزال تعقيد الظواهر التاريخية إلى صيغ بسيطة. وهو مآل مؤسف لتلقي مشاريع نقدية مهمة، مثل بعد الكولونيالية وبعد البنيوية، عملت أساساً في بداياتها على أشكلة الظواهر التاريخية وبيان تعقيدها وتعدد أصواتها.
مشكلة «الغرب»
يبدو أن «الغرب» ما يزال يشكل عقدة أساسية للتفكير العربي والإسلامي حول أي قضية. اعتقد سيد القمني أن «الصحوة الإسلامية» تعيق العالم العربي والإسلامي عن الأخذ بأسباب التحديث، المتجسّدة في الدول الغربية. اليوم ينتقده خصومه لأسباب مشابهة، في تناقض مثير للدهشة فعلاً: «الغرب» الآن يفكك المركزية الغربية، وبالتالي فإن انتقاد الغرب هو اتباع لآخر صرعة فكرية سائدة في الغرب نفسه. وكأن الخلاص من «المركزية الغربية» هو إثبات للتقدمية والتنوّر، ووعي المثقف العالمثالثي، بأنه مستوعب لآخر ما يدور في أروقة المؤسسات الثقافية الغربية. نرى اليوم إسلاميين عقائديين، أو يساريين مناهضين للكولونيالية، يسخرون من التنويريين العرب التقليديين، فقط لأنهم لم يكرروا آخر الأفكار التي توصّلت إليها الأكاديميات الغربية في المراكز الكولونيالية السابقة!
تماماً مثل سيد القمني، يبدو أن الغرب ما زال صنماً واجب الاتباع بالنسبة للفكر العربي المعاصر، وبالتالي فإن السائد هو الفهم المبتذل للتنوير، بوصفه استلاباً بآخر مظاهر المركزية الغربية، التي فرضت نفسها على العالم بأكمله. يمكن القول، دون كثير من التجنّي، إن الإسلاميين واليساريين العرب، المتابعين بشغف لآخر منتجات «نقد الحداثة» في الجامعات الناطقة بالإنكليزية، ليسوا أكثر من تنويريين من الدرجة الثانية. يروّجون لأفكار معينة، فقط لأنها «غربية» و»جديدة»، وليس بسبب اشتباكهم المحلي مع مفاهيم معقدة حول حركة مجتمعاتهم وأسئلتها وصراعاتها.
مشكلة الحيز العام
ورغم كل التشابه المذكور أعلاه بين سيد القمني ونقّاده العرب المعاصرين يمكن تحديد ميزة له عنهم: نشر قمني أفكاره في الحيز العام المتوفّر في بلاده، على أمل أن يستقطب بحججه أفراداً من مختلف المشارب والانتماءات. متمنّياً أن يستطيع تغيير قناعاتهم، وإبعادهم عمّا يراها أفكاراً رجعية وظلامية، عن طريق ما توفّر له من إمكانيات البحث والنشر.
اليوم يبدو نقّاد القمني أقلّ إيماناً بالتغيير في الحيز العام. يتحوّل الإسلاميون تدريجياً إلى ما يشبه طائفة هوياتية مغلقة، تجتر دوماً مظلمتها من إجراءات الحكومات القمعية، ونكران المجتمعات لآلامها وتضحياتها. فيما يبدو أنصار سياسات الهوية «اليساريين» أقرب لمدافعين عن حساسيات فئات معيّنة، ضد أشكال العدوان الكبير والمصغّر المنتشرة في الحيز العام، محاولين فرض نمط من «ثقافة الإلغاء»، أينما وصل نفوذهم الثقافي المحدود.
ربما كان أسلوب سيد القمني، المستعد لخوض المناظرات أينما سنحت له الفرصة، والذي يعتبر أن كل القضايا قابلة للجدل والنقاش، أكثر ديمقراطية وتطوّراً من كل من يعتبرون أنهم قد تجاوزا بدائية معارك التنوير العربي.
كاتب سوري
“القدس العربي”