يمتاز أسلوب الموسيقار والمغني العراقي إلهام المدفعي بأنه مزيج ما بين الألحان الغربية والفولكلور العربي والعراقي، وذلك من خلال إدخاله آلة الغيتار إلى الأغنية العراقية، ما أدى لتحولها من أغنية حزينة إلى أغنية تمتاز بالفرح.
ويسير المدفعي على هذا النهج منذ أكثر من نصف قرن، واستطاع خلال مسيرته الطويلة هذه، تقديم المئات من الأغاني والألحان.
ويستقر المدفعي حاليا في عمَّان بعد حصوله على الجنسية الأردنية عام1999 وبالرغم من انتشار جائحة كورونا والحظر المرافق له في الآونة الأخيرة، إلا أنه ما زال مصراً على الغناء والتلحين، فهو يتنقل بين العديد من بلدان وعواصم العالم برفقة غيتاره والذي بات يُشكل علامة فارقة في فنه وشخصيته.
عن البدايات، وما رافقها من مصاعب، وعن عوالم الفن والموسيقى، وأسباب طغيان الحزن في الأغنية العراقية، كان هذا الحوار مع الموسيقار العراقي إلهام المدفعي.
○ ينظر الكثيرون لإلهام المدفعي على أنه رائد التجديد في الأغنية العراقية، لكنك بالمقابل ما تزال محافظاً على لونك الخاص شكلاً ومضموناً حتى اليوم، ماذا ترد؟
•أسلوبي الخاص ابتدأ منذ أكثر من خمسة وخمسين عاماً، حيث كنتُ أول من قدم هذا الأسلوب على الصعيد العراقي والعربي؛ من خلال تقديم الأغنية العربية والعراقية بأسلوب آخر غير المألوف والمعتاد، فيما بعد أصبح هذا الأسلوب محبباً بين أوساط الشباب، خاصة من الذين اعتادوا على الاستماع للأغاني الأجنبية فقط، فكان أسلوب إلهام المدفعي تغييرا وثورة كبرى في طريقة تقديم الموسيقى العربية والعراقية آنذاك.
أما النهج، وعدم التغيير، فيعتمدان على طريقة تقديم العرض الموسيقي على المسرح، حيث أنني أقدم الآلات العربية الأصيلة، كالقانون والناي بأسلوب مختلف؛ يمتاز بتناغم كبير بينها وبين الغيتار. إذ أقوم بتقديم نفس الأغاني على العديد من المسارح العالمية، ولكن بأسلوب جديد في التقديم والتوزيع، فالنمط والنهج مختلفان عن أي إطار موسيقي آخر.
○ تغني للناس من شرفة منزلك أثناء جائحة كورونا، من أين يستمد إلهام المدفعي كل هذا الإصرار على الاستمرار؟
•الاستمرار مهم، والأمل مطلوب، فليس هناك أي عمر معين ليقف الفنان عن العطاء، خاصة إذا كان الفنان ما يزال قادراً على تقديم عروضه الموسيقية بالمستوى والأسلوب المطلوب، والمعروف لدى الجمهور.
أما بالنسبة لجائحة كورونا فقد تسببت في تغير هذه الحياة على كافة الصعد، ولكنني كنت من أوائل الفنانين في العالم الذين قاموا بتقديم حفل (أون لاين) كبير من المدرج الروماني في العاصمة الأردنية عمان، حيث قمنا بتقديم هذا الحفل في قمة مرحلة انتشار الجائحة، وكنت مصراً على التواصل مع جمهوري الحبيب في كل أنحاء العالم؛ فالجمهور له محبة كبيرة في نفسي وهذا لن يتوقف، ولن ينتهي لآخر العمر.
○ وما هي الأعمال التي تُحضر لها في الوقت الحالي؟
•بعد الحفل الأخير في عَمان تم تقديم أغنية «بعد الغياب» مع صوت من أصوات العراق الجميلة، وهي الفنانة نادين الخالدي؛ قائدة «فرقة طرباند» السويدية المعروفة، والتي تقدم فناً في أسلوب متميز؛ عازفة وملحنة ومؤلفة، فقررنا أن نقدم عملاً جديداً باسم «بعد الغياب» وهو بمثابة (رسالة) لعودة الأمل والحياة في مرحلة ما بعد كورونا، ومؤخراً تم إطلاق أغنية «حلوة يالبغدادية» وهي مهداة لكل امرأة عربية ناجحة في الوطن العربي، وهذه الأغنية أساساً لصديقي الفنان المرحوم صلاح عبد الغفور، وهي من الأغاني التي انتشرت في السبعينيات، ومؤخراً قدمتها بأسلوبي الخاص.
○ في بداية مشوارك الفني واجهتك العديد من التحديات، كيف استطعت التغلب عليها؟ ومن الذي كان سنداً لك في تلك الفترة؟
•أبرز التحيات لكل من له علاقة في الوسط الفني آنذاك، وقام بمحاربة إلهام المدفعي؛ لقد مُنعتُ من السفر، ومنعت أعمالي من الظهور في الإذاعة والتلفزيون.
كانت هناك حرباً قاتلة ضد هذا الأسلوب الذي انتهجته، لكني بالمقابل كنت مصراً على الاستمرارية متحدياً تيار المعارضة لأسلوبي، واستطعت التغلب عليه، وكان أكبر سند لي في تلك الفترة، وحتى الآن، هو جمهوري، وكان غالبيتهم من الشباب، ولاحقاً هذا الجيل صار يغني ويُطرب لسماع أغاني إلهام مدفعي.
وأعتقد أن السبب كونهم وجدوا فيها الرسالة التي تمثلهم، وتمثل بلدهم، وتنقلها للعالم.
○ وما هو سبب تعلقك بآلة الغيتار بشكل خاص؟ وما هو أثر البيئة والأسرة في نشأتك وتشجيع ميولك الموسيقية؟
•آلة الغيتار كانت أول هدية قُدمت لي عندما كنت في الثانية عشرة من عمري وهي من ابنة عمي، وكان لهذه الهدية أثرٌ كبيرٌ في بداية التفكير بتقديم الموسيقى في مرحلة الطفولة.
أما عن أثر البيئة والأسرة، فأنا ابن عائلة تعرف الموسيقى وتتذوق الفن الراقي، ولقد كانت آلة العود دائماً متوفرة في المنزل.
○ لكن عائلتك أرسلتك لدراسة الهندسة في إنكلترا، ثم عدت إلى بغداد عام 1967 لتشكل فرقة موسيقية تهتم بالفولكلور العراقي بطريقة غربية، متى قررت أن تتحول من الهندسة إلى الغناء؟ وماذا عن موقف أسرتك؟
•صحيح أن عائلتي تتذوق الفن والموسيقى كما قلت لك سابقاً، لكن لا أخفيك أنهم لم يحبذوا التحول الجذري والتوجه كلياً نحو الفن، خاصة في مجتمع بغداد المحافظ نسبياً آنذاك؛ لكن مع مرور الزمن أصبح أسلوب إلهام المدفعي رمزاً لعائلتي وأسلوباً خاصاً لي انتشر في العالم.
أما بالنسبة للهندسة فما زلت أفتخر أنني جزء من عائلة هندسية؛ فاخوتي الأربعة يعملون في مجال الهندسة، وهم من الأسماء المعروفة عراقياً وعربياً، ولا تزال الهندسة تشكل جزءاً مهما في تقديم الأغنية عندي، فهناك ربطٌ كبير- من وجهة نظري- ما بين الفن والهندسة وتقديم الموسيقى وفق هذا الشكل والأسلوب الذي أسير عليه.
○ من الذي أطلق عليك لقب «أزنافور العرب»؟ وماذا يعني لك اليوم؟
•لقب «أزنافور العرب» أطلقته عليًّ الصحافة العالمية، وبلا شك هو من الألقاب المحببة لقلبي، وكان له الأثر الجميل في نفسي؛ وذلك كون أزنافور يعتبر أحد أساطير الفن العالمي، وهناك تشابه في طريقة تقديم الموسيقى، وربما هذا هو السبب في إطلاق اللقب علي.
بالإضافة لاعتزازي وحبي الكبير بلقب The Baghdad Beatle وهو لقب أطلقته عليَّ إذاعة «بي بي سي» الإنكليزية، بعد تقديم حفل في مسرح «رويال البرتهول» المعروف عالمياً في العاصمة البريطانية لندن، إذ اعتبروا أن أسلوبي تكملة عربية لفرقة The Beatles العالمية، علماً ان الفرقة قد حضرت أحد حفلاتي في لندن في فترة الستينيات وأعجبوا بأسلوبي حينها في تقديم الموسيقى العربية على الغيتار، فقد كان هذا الأسلوب حديثا لفرقة The Beatles العالمية.
○ غنيتَ في أشهر مسارح العالم وبالرغم من ذلك ما زلت تحن إلى شارع الأعظمية في بغداد، وتحلم أن تغني في»مقهى الزهاوي» ما سر الحنين لبغداد؟
•صحيح، غنيت في «تريانون» في باريس وفي دار الأوبرا، و«كوين أليزابيث هول» في لندن، وفي «رويال البرتهول» وفي دار الأوبرا في القاهرة، ودار الأوبرا في برلين، والعديد من المسارح الأخرى في العالم، أما الحنين إلى بغداد فهو نابع من القلب، وهو شعور أبدي لتقديم عروضنا فيها بشكل دائم؛ وذلك كون بغداد، أول مدينة ابتدأت منها، ثم انطلقت بعدها للعالمية؛ فالحنين إليها لن يتوقف أبداً.
○ يطغى الحزن وتمجيد الألم على الغناء العراقي، هل هذا انعكاس لتاريخ العراق وما مر به من عبر تاريخه الطويل؟ أم ماذا؟
•بالطبع هو انعكاس لتاريخ العراق، فالعراق بلداً ومجتمعاً مر بمراحل وبتغيرات عدة كان لها الأثر الكبير على الفن والأغنية العراقية؛ من حروب ومصائب امتدت لسنوات طويلة. ولذلك من الطبيعي أن تبرز الكلمات والألحان الحزينة في الأغنية العراقية، هذا من جانب، ومن جانب آخر، وكما هو معروف فإن الأغنية العراقية عريقة ولها جذور متنوعة؛ فأغنية الجنوب مختلفة عن أغنية الشمال، وأغنية الشرق مختلفة عن أغنية الغرب، ولكل منطقة في العراق مشاعر وأحاسيس مختلفة تعكس ما مر به هذا الشعب، والذي أتمنى أن يعيش برخاء وأن يستعيد موقعه الريادي في العالم كبلد وحضارة لن يأتي مثلها أبداً.
○ ما أسباب انتشار الأغاني الهابطة وتزايد القنوات التي تعرض الرقص والفن الرديء في العراق في وقتنا الحالي؟
•لا يوجد شيء اسمه «الأغنية الهابطة» وإنما الحقيقة أن الأغنية المنتشرة ما هي إلا انعكاس لذوق الشارع والناس، ولكل زمن أغنية وأسلوب معين.
والأغنية في العراق اليوم اختلفت واتجهت إلى ناحية أخرى من حيث أسلوبها وإيقاعها وألحانها.
ولكن تبقى الأغنية الأصيلة أصيلة، وتبقى طريقة تقديم الموسيقى مختلفة، بحسب كل فنان وطريقته التي يمتاز بها.
○ كيف تصف علاقتك بابنك محمد؟
•محمد، هو الابن والصديق على طول الطريق، ويسعدني أن يكون جزءاً من النجاحات التي حققتها، حيث كان له الدور الكبير على العمل في الوصول إلى العديد من المسارح والمواقع في العالم، إضافة إلى رؤيته الخاصة في تقديم مجموعة من الأغاني، وكذلك رؤيته في تقديم الحفل أون لاين «بعد الغياب» و«حلوة يالبغدادية» و«فكرة الإلهاميات» بالإضافة إلى تخصصه في تقديم كبرى الحفلات، حيث قام بإنتاج حفل كبير تكريماً لخمسة وخمسين عاماً من موسيقى إلهام المدفعي في العاصمة الأردنية عمان قبل كورونا، وكان الحفل (صدقاً) بمستوى عالمي من حيث التحضير والتنظيم والتنسيق، ولقد تم تقديم صورة الحفل بأسلوب جديد، وسيستمر المشوار بيني وبين ولدي الوحيد محمد في كل ما هو جميل، وما يمكن تقديمه لجمهورنا الحبيب في العالم.
○ وماهي الإلهاميات؟
•هي الأغاني التي قدمتها خلال فترة 23 سنة الماضية، ويقوم حالياً ابني محمد؛ وهو مدير أعمالي كذلك، بالعمل على إنتاجها، وستطرح من خلال تصوير مجموعة من الأغاني العربية القديمة المعروفة، ويتم من خلالها عرض قصص هذه الأغاني، وذلك لأهميتها من ناحية، ومن ناحية أخرى كونها حققت صدى مميزا لدى الجمهور.
○ غنيت للشاعر التونسي أبي القاسم الشابي، وكنت أول عراقي غنى لنزار قباني، حبذا لو حدثتنا عن هذه التجربة؟
•لحنت للشاعر التونسي الكبير أبي القاسم الشابي أغنية «اسكني ياجراح» خلال فترة السبعينيات، وتم تسجيلها وتقديمها قبل ثلاث سنوات بصورة أخرى مختلفة، ونالت إعجاب جمهوري، أما نزار قباني فتربطني بالراحل الكبير علاقة شخصية، عدا عن ذلك هناك علاقة قرابة بيني وبين زوجته بلقيس، وفي السبعينيات أيضاً لحنت لنزار «أغنية بغداد» وهي من ضمن «ألبوم بغداد». ولقد أثرت بي هذه القصيدة لأن نزار كتبها بإحساس مرهف، لدرجة أنه يجعلك تشعر وكأنك تقف أمام نهر دجلة في وقت الغروب.
“القدس العربي”