المشهد الذي رأينا الرئيس الروسي وهو يرتبه على لوحات متتالية، ربما هو جديد على بوتين، لكنه ليس جديداً علينا في الشرق الأوسط. فقد كان التحضير لعمليات انتحارية من هذا النوع يجري كل مرة، حين يـقرِّر ديكتاتور متفرِّد بالقرار مجنون بالقوة والعظمة تفصيل خطة حمقاء ستقوده إلى الانهيار، ولم يكن قرار الرئيس العراقي الراحل صدام حسين بعيداً عن هذا الدأب. فقد رسم بنفسه مسار انهيار نظامه وتدمير البوابة الشرقية للعالم العربي فقط بالحماقة الذاتية ووَهْم القوة.
بوتين جمع مستشاريه ومجلس أمنه ، وقبل ذلك أظهر أن البرلمان الروسي يناشده الاعترافَ بالإقليميْنِ الانفصالييْنِ في أوكرانيا، بمعنى آخر أراد أن يقول هو ليس قراري لكني أستجيب لرغبة الآخرين، وباعتباره والد الأمة والأب الجبار فقد قرر أن يكون عطوفاً على المواطنين الروس، الذين منحهم بنفسه الجنسية في أوكرانيا، لحمايتهم من الإبادة المزعومة.
الآن وقع أسوأ الاحتمالات المعروفة مسبقاً، والتي فضحتها الولايات المتحدة خلال الفترة الماضية، وسط إنكار روسي هزلي. وها هو بوتين يغزو أوكرانيا.
الحديث يجري عن الناتو، وعن أن الغرب بقيادة أميركا، لن يسمح بالمس بأي عضو من أعضاء الحلف، لكنه يتعهّد بالصوت العالي، بأنه لن يحرّك جندياً واحداً للدفاع عن دولة مستقلة عضو في الأمم المتحدة. وفي مثل هذه المعادلة، لم يعد مفهوماً من الأهم، عضوية حلف أم عضوية الأسرة الدولية؟ ولم يعد واضحاً كيف ينظر العالم إلى الشرعية الدولية، هل هي شرعية التحالف المصلحي أم شرعية القانون الدولي؟.
مشهد مسرحي آخر تخرجه واشنطن بالتعاون مع ممثليها وكومبارسها من الدول التي أعلنت تضامُنها مع أوكرانيا وفرضت حزمة عقوبات لا يكترت لها بوتين. وبين المشهدين يستمر الغزو الروسي لأوكرانيا، ولكن ما الذي سيخلفه ذلك في حال نجح أو فشل؟.
الغزو الروسي لهذا البلد الذي يعد 44 مليون نسمة مشحونين بمشاعر وطنية عالية وتحت مطارق الروس التي يرونها حاقدة، يفشل بمجرد وقوعه، فالسيناريو المرسوم أوهن من أن يتمكن من الصمود طويلاً، فماذا بعد أن يسيطر الجيش الروسي على هذا البلد؟ سينصّب حكومة موالية له في كييف؟ وماذا بعد؟ كيف سيحميها وكيف سيمنع الأوكرانيين من إسقاطها؟ ليس لديه سوى البقاء كقوة احتلال تقليدية وهي المهمة التي عجزت عنها جميع الجيوش في التاريخ الحديث، بما فيها الاحتلال الإسرائيلي حين اتبع الأساليب التقليدية.
ستبدأ المقاومة، وهذه المرة هي مقاومة قومية أوكرانية لجيش لا يمتلك أي شرعية، هو أجنبي قادم من خارج الحدود، ليس هذا فقط، بل إن بين الأوكرانيين والروس تاريخاً طويلاً من الاستغلال من جانب واحد لطالما دمّر مقدرات الأوكرانيين وأوهمهم أن في بلادهم مجاعة فيما كانت ثرواتهم تذهب إلى العمق الروسي، مروراً بالكوارث التي أوقعها بهم ومن بينها تشيرنوبل الذي أعاد الروس احتلاله اليوم بعد أن أداروه بطريقة أوقعت كارثة نووية عانت منها أوكرانيا وأوروبا معاً.
ستقاوم أوكرانيا الغزاة الروس وتلطّخ سمعتهم أكثر مما هي ملطخة اليوم بجريمة التدخل في سورية، والتحول الذي يمرّ به بوتين اليوم، من وضعيته السابقة غير المستقرة، إلى العدو رقم واحد في العالم للحرية والديمقراطية وللشعوب التي تنشد الحياة الكريمة، سيقوده إلى المزيد من العزلة، وسيعيد رسم خرائط التحالفات في العالم.
أما النجاح الذي يتوهمه بوتين فهو إنجاز المهمة وسحق أوكرانيا والخروج أقوى مما كان عليه سابقاً. ولا أحد يقول لبوتين إن هذا ليس فقط من سابع المستحيلات بل هو الجزرة التي لوحت له بها الولايات المتحدة في طريقها إلى تطبيق برنامج تحييد روسيا عن الصراع المستقبلي مع الصين.
ستكون روسيا في حالة حرب إلى وقت طويل، بدءاً من فجر الخميس، لحظة تحرك القوات الروسية لغزو أوكرانيا. وحالة الحرب ليست مزحة في الوضع الاقتصادي العالمي الحالي، ولا يمكن تخيل نتائجها في ظل المستوى الذي أوصل بوتين روسيا إليه، فروسيا ليست بلا شعب، وشعبها لن يحتمل المزيد من المغامرات مهما قمعه بوتين بأجهزته والمافيا التي يتحكم بها.
الهدف الأبعد لبوتين هو إعادة هندسة أمن أوروبا، وليس فقط حماية الأمن القومي الروسي من تهديد الناتو. أي أنه يريد التدخل بعمق في الأمن الأوروبي الذي بدأ بالتحوّل مع العمليات الأولى للغزو الروسي هذا الأسبوع. لديه تصورات عن الساسة الأوروبيين أنهم ليسوا أكثر من ”مثليين ضعفاء“ كما يقول في مجالسه الخاصة، في الوقت الذي يصعّد من الشعور القومي الروسي عبر سيل من الإجراءات والبرامج التي تصب في هدف واحد، إنتاج روسيا قيصرية جديدة تستغل فرصة الضعف الأوروبي. لكن هذا سيخرج الأفاعي من الجحور، ويذكي الحس القومي المتطرف في أوروبا. حينها سيجد بوتين طبقة سياسية أوروبية جديدة لا تقبل بخطابه، بل هي على استعداد لشن الحرب عليه في استعادة حادة للحرب العالمية الثانية بحذافيرها.
الأميركيون يدركون هذا، وهم يديرون اللعبة ببراعة، وسيكون التخلص من عبء الاتحاد الأوروبي والاتحاد الروسي غنيمة مزدوجة تخلي الساحة لعقود قادمة من الزمن. لكن التاريخ يقول: إن مثل هذه المقامرات لا تجري تماماً كما هو مخطط لها، فهي مرتبطة بتحولات الشعوب التي لم تعد مجرد دمى لا بيد بوتين ولا بيد خصومه. ليس بالشعارات، بل بمتغيرات العصر وثورة التكنولوجيا التي تجعل من استحضار أدوات الماضي التقليدية نوعاً من التدمير الذاتي لا أكثر ولا أقل.
“نداء بوست”