أدب ثائر على كل الأنماط يتحوّل معه كل معنى إلى أثر.
يقول إيهاب حسن “عندما يتلطف الكاتب بوضع كلمات على الورق، فهو ميال لتصوّر ما ضد الأدب، إما بحدث صرف وإما بلعب غير ذي جدوى”، أما ج. ف. ليوتار فيقول إنه “لا بد من ضياع الشيء لكي تبقى فكرته”، مقولتان تكشفان جانبا من ملامح أدب ما بعد الحداثة الذي يختلف جذريا عمّا سبقه.
لا يمكن تجزيء “ما بعد الحداثة” عن ثالوثها الكبير والأهم و”المرجعي”، يتعلق الأمر بـ”السرديات الصغرى” (ليوتار)، كنقيض للسرديات الكبرى للحداثة (السعادة، التقدم، العقلانية…)، وبـ”اللعب” (دريدا)، كمقابل للتعقل والرزانة، وبـ”السيمولاكر” (بودريار)، عكس الأصل والتفرد والفرادة؛ ويمكن ربط هذا الأخير (أي السيمولاكر) بزوال هالة العمل الفني والأصل حسب والتر بنجامين وحلول عصر إعادة الإنتاج التقني.
ولا يمكن فصل كل هذه الأمور عن فلسفة نيتشه وعدميته الإيجابية، المضادة للعدمية السالبة، وأيضا ما توصلت له المدرسة التحليلية مع نيلسون غودمان وأرتور دانتو، وحتى قبلهما مع لودفيغ فتغينشتاين وما سماه بـ”الألعاب اللغوية”؛ إلا أن الفضل الأهم يعود إلى إيهاب حسن الذي صاغ “التعبير ما بعد الحداثي” لتبويب الأدب والفن (مسرحا ورقصا وسينما وتشكيلا…) الذي انعطف انعطافا حادا عن طريق الحداثة.
ويضاف إلى هذا كله الرؤية اللاعقلانية التي جاءت كرد فعل مهدم لكل ما سعت العقلانية الحداثية إلى بنائه من أجل مجتمعات منضبطة ومهيكلة تنفي عنها كل تفكير لا يتلاءم و”العقل”. إذ يعرض الأدب ما بعد الحداثي، أزمة هوية الإنسان (الثقافية والاجتماعية والجنسية والإثنية) وكفاحه لنيل الشرعية في مجتمع منافق.
لقد عولجت هذه الثيمة من قبل مؤلفين آخرين من قبل، ولكن معالجتها المنهجية، يقول كوشنير جاروسلاف، جاءت بعد حركة الحقوق المدنية في الستينات (مارت لوثر كينغ، وحقوق الأقليات الإثنية أو الاجتماعية أو الجنسية)، والمظاهرات الطلابية والمسيرات ضد الحرب في الفيتنام التي اجتاحت أميركا وأوروبا. قادت تلك التغيرات إلى إضفاء الطابع الديمقراطي على الحياة العامة وعلى المزيد من الامتيازات وفرص التعليم والنشر للأقليات في البلدان الغربية.
الفوضى والكولاج
تسعى ما بعد الحداثة إلى تمثيل “جنون العالم”، الجنون الفوكوّي (نسبة لفوكو)، إن صحّ التعبير. فالأعمال الأدبية ما بعد الحداثية تبرز كل حالات اللااسقرار واللاتوازن واللايقين والنسبية -فلم تأتِ ما بعد الحداثة لنشر أو تبليغ حقيقة معينة؛ وأيضا فهي تسعى إلى إبراز حالات الكاووس (الفوضى العارمة) وجنون العظمة والأنتروبيا (الفوضى الكونية)، والبارانويا… وغيرها، وكلها حالات لا تحضر عبر السرد فحسب، بالنسبة إلى العمل الأدبي السردي، بل داخل المستوى اللغوي أيضا.
لقد “باتت اللغة في مرحلة ما بعد الحداثة تميل إلى ما هو تراجيدي بسبب انفجار وتمزق المحتذيات”. ما جعل من الصعب الإمساك بالمعنى الذي يحضر متشظيا ومتعددا وغير واضح، حيث يتحول المعنى إلى أثر.. “أثر يدل دون أن يظهر” بتعبير لفيناس؛ وهو ما يفتح الأفق للتأويل والتأويل المضاعف، ما يجعل الفكرة والمفهوم أهم من الشكل المادي. ومعه تصير كل عملية كتابة، هي ممارسة لتفكيك اللغة وتمزيقها وإعادة كتابة مفرداتها.
بينما المعاصرة، أدبا وفنا، ليست تحقيبا كرونولوجيا بقدر ما هي جزء من جنيريك الفن والأدب، أو بالتدقيق إنها براديغم من البراديغمات الثلاثة: الكلاسيكي والحديث والمعاصر. واليوم تتعايش هذه النماذج الكبرى فيما بينها. إلا أن الجمالية المعاصرة هي حساسية وانفعالات “تعمل بطريقة إدراكية”. إنها تستند، بصورة أكثر اتزانا، إلى قدرتنا على رؤية ما الذي يجعل العمل الفني نسقا رمزيا، أليغوريا (allégorique) إن أردنا القول، وفهم كيف يشتغل نسق الرمز هذا. كما الحال هنا عند غودمان، إذ حسب هذا الفيلسوف، “ما عادت الجمالية التحليلية تحدد الفن بالقياس إلى ما هو عليه في ماهيته المفترضة أو الآتية، ولكن حسب ما تلفظ من وجود وفي ما نقوله فيه. ما يعبّر عنه العمل الفني والأدبي، ومضمونه، وفكرته، لا يحسب لها، إذن، أي حساب”.
فقد تجاوزنا بالتالي التصور التقليدي والكلاسيكي، عن الجمالية أو علم الجمال، وعن الأدب والكتابة الأدبية، ولم نعد نتحدث عن المتعة والتذوق والإتقان والنسقية. إذ بات كل شيء قابل أن يغدو فنيا وعملا فنيا، ونتحدث هنا عن جمالية القبح والمتلاشي والزائل والعابر وغيرها. بل إن مفاهيم كالكولاج المستخدمة في الفن قد اخترقت عالم الشعر والسرد، فنتحدث عن تمثل متشظ للواقع، نوع من اللصق لأقصوصات متفرقة لا تسعى إلى نسقية معينة، بل إلى بناء ميتاسرد، نوع من الماوراء Méta الواصف، (حيث تتراكب نصوص فوق بعضها في خفاء يحتاج معه القارئ لحفر أركيولوجي يستدعي إلماما جينيالوجيا بالنصوص الخفية). إنه نوع من المفارقة التي تصير واقعا بديلا، متعمدة ألا تكون هي نفسها الواقع.
ويختلف الكولاج الحداثي عمّا بعد الحداثي، فالأول لا يمكن فصل الأجزاء فيه عن بعضها البعض ولا يمكن فهمها بمعزل عن بعضها البعض، بينما في الثاني فلكل جزء استقلاليته التامة، مكتفيا بذاته خالقا معنى خاصا به، في خدمة الكل (العمل)، نوع من “الذات الجزيرة” بتعبير ليوتار؛ فلا زمنية في الكولاج ما بعد الحداثي، بل إنه يستحضر التعدد والتشظي والاستقلالية الجذمورية التي تربط علاقات خفية وسطحية مع “الجزر المجاورة”.
بالإضافة إلى الاشتغال على التناص والاستدراج وإعادة التدوير للنصوص السابقة، فلا تدّعي المعاصرة أي أصالة فهي ضد هذا المفهوم، بل تسخر منه، فالعمل الأدبي والفني المعاصر لا يدعي الجدة والابتكار، لكنه جاء لإعادة تدوير ما يوجد في قالب مغاير… لهذا كثيرا من نجد الأعمال ما بعد الحداثية تستعين بالباروديا والباستيش pastiche والمفارقة الجذرية. لكن ليس هدفا منها إلى إحداث سخرية ما تجاه موضوع معين من أجل السخرية، بل إنها تعمل على مستوييْن: الهدم والتأكيد، التفكيك والبناء؛ لأنها جزء من هذا المجتمع الاستهلاكي الذي تعيش في طياته، عبر نوع من النقد والشرعنة له. لهذا فلا قاعدة مُمنهجة تعتمدها ما بعد الحداثة. فالجمالية المعاصرة، باعتبارها حساسية، لا تستند على اتباع القواعد بل على خرقها وخرق المعايير، فتغدو “اللاقاعدة قاعدة”.
السطح العميق والمتاهات
لا تؤمن الأعمال ما بعد الحداثية بالاستقرار واليقين والحقيقة. إنها ضد كل هذه المفاهيم، من حيث إنها تنتصر للفوضى والنسبية واللعب والهزل.
إنها ضد الغائية، لكونها تنتصر للعبث والعيش في اللحظة، هروبا من العدم. وإن كان العمل الفني المعاصر يُشَغِّل السند -في خامه- لصالحه، فالأدب المعاصر يُشغّل اللغة لصالحه، فهو يقوّض اللغة لخدمة السرد المتشظي، إذ نجد الكاتب ما بعد الحداثي، يتلاعب باللغة ذهابا وإيابا لا يعير البناء السردي العمودي أي اهتمام، موظفا نوعا من الاشتغال على المتاهة والمرايا والأقنعة، ويخرج عن الحكي ليخاطب القارئ ويحاوره، ما يدخل النص في فوضى عارمة وفي نوع من الهلوسة والأحلام المربكة، التي تربك القارئ وتجعله يرى نفسه داخل ما يسميه البعض بـ”ما بعد النص”، إذ أن العمل الأدبي المعاصر لا يحتكم أبدا لأي آلية من آليات الكتابة الحداثية أو الكلاسيكية.
وإن كان أدب الحداثة يتكئ على السيرورة والعمق، فإن أدب ما بعد الحداثة جاء تحطيما لهذا الأخير، فهو يستعين بنوع من التسطيح: الحقيقة في الطبقة الأولى من البدن، كما يرى ما بعد الحداثيون، حيث إن أعلى درجات الألم لا نتحسسها إلا على مستوى الطبقة الجلدية الأولى، بالتالي فلا بحث عن معان دفينة وعميقة في أدب ما بعد الحداثة، فكل شيء يحدث على مستوى السطح (النسيج) بنوع من اللعب الحر والمتداعي. لهذا لا بد أن نتحسس بدن النص ونصعد ونهبط ونلعب في تضاريسه. ما يجعل من النص الأدبي ما بعد الحداثي لا يحضر باعتباره انعكاسا لشيء خارجي أو حتى داخلي، بل باعتباره جسدا موجودا في العالم.
لقد غدا إذن النص الأدبي مع ما بعد الحداثة جسدا مستقلا بذاته، حرا طليقا. خاضعا لآليات وسلطة التأويل، ما جعل منه مفتوحا على كل القراءات. لا يهتم بالضرورة بتعقيدات اللغة، بل باللعب اللفظي واللغوي بما يمكن تسميته بالمرايا والمتاهات، ما يدخل القارئ في نوع من الأخذ والرد مع النص الأدبي، فهو داخله وخارجه في الآن نفسه، وهو القارئ والصانع له في الآن ذاته.
لا تؤمن الأعمال ما بعد الحداثية بالاستقرار واليقين والحقيقة إنها ضدها وتنتصر للفوضى والنسبية واللعب والهزل
فالقارئ يحيا بعد موت الكاتب (المؤلف)، بلغة رولان بارت. كنوع من ميلاد العنقاء من رمادها/النص، لكنه ميلاد مختلف نوعا ما. فحياة النص إذن رهينة بالقارئ، بتعدده وتعدد قراءاته وتأويلاته للنص. كل ذلك في لعب متاهتي ومرآتي، يعكس كل مرة صورة وشكلا مختلفا ويسلك القارئ فيه دربا جديدا صعبا أو سهلا يقوده نحو فهم مختلف مع كل قراءة.
إنها إذن “المتاهة الهرمسية” (نسبة إلى الإله اليوناني هرمس)، بتعبير أمبرتو إيكو. إذ مع التأويل والتأويل المضاعف والمفرط، بات النص مفعما بحيَوات لامتناهية قابلا للتجديد “المفرط” في التأويل، غير خاضع لأي سلطة فهم وتفسير أو حقيقة معطاة سابقا، ما يدخله في نوع من اللعب و”العبثية”، غير مقيم في أي معنى جاهز، محكوم بالإحالة ومبني على أنقاض نصوص أخرى سفلى أسفل بياض الورق، ومنذور للتشظي والتفجير، يحضر فيه الكاتب ويغيب، فتنمحي ذاتيته ويصير “مسرحا عبثيا”، يحق للناقد أن يقيم على ركحه “نصا” (قرائيا) موازيا. كأنهما انعكاسان مختلفان لجسد واحد في المرآة. فلم تعد هناك فواصل بين الكاتب والقارئ والنص.
“صحيفة العرب”