السؤوال المحيّر في المغامرة التي أقدم عليها الرئيس فلاديمير بوتين في أوكرانيا هو لماذا كل تلك القوة المفرطة وقد كان في متناوله استعمال أساليب أخرى، جرّبها ونجحت في مناطق أخرى، أقل خطورة على روسيا وعليه وعلى العالم؟
برز في العقود القليلة الماضية مصطلح «الحروب الهجينة». هي الأكثر انتشارا الآن في فضاءات الصراع بين القوى الكبرى. هذه الحروب تجري بخليط من الأدوات القتالية، القديمة والحديثة، المباشرة وغير المباشرة. يتضمن هذا النوع كذلك الحروب بالوكالة، والقتال عبر شركات أمنية ومتعاقدين خواص يوظفون المرتزقة من مختلف دول العالم. تتضمن «الحروب الهجينة» أيضا الأعمال التخريبية والمعارك المعلوماتية والاقتصادية والنفسية، والحروب الإلكترونية، أكثر مما تتضمن من المواجهة التقليدية المباشرة. قد تمزج معركة واحدة في «الحروب الهجينة» بين فيسبوك والطائرات المسيّرة والمجموعات القتالية الخاصة والقرصنة الإلكترونية.
من الدول التي برعت في «الحروب الهجينة» روسيا بقيادة بوتين. جرَّبت بنجاح الجيوش الإلكترونية في الانتخابات الرئاسية الأمريكية. وفرضت وجودها في ليبيا وأفريقيا من خلال مجموعة «فاغنر» شبه العسكرية. وجرَّبت القوات النظامية وسلاح الجو في سوريا. جرَّبت روسيا أيضا القوة الناعمة في صراع ناغورنو كارباخ الأخير بين جورجيا وأرمينيا. وألقت بثقلها في بيلاروسيا لإنقاذ الرئيس ألكسندر لوكاشنكو من انتفاضة شعبية ضد استمراره في الحكم منذ 1994. ومؤخرا حضرت لدعم النظام الحاكم في كازاخستان من انتفاضة شعبية بدأت بسبب رفع أسعار الوقود لكن جذورها سياسية. لكن عندما وصل الأمر إلى أوكرانيا اختار بوتين القوة الثقلية، وهنا مكمن اللغز.
بدايةً، يتفق نصف الكرة الأرضية تقريبا على أن المخاوف الأمنية والمسوِّغات الاستراتيجية التي يسوقها الروس ويتذرعون بها في أوكرانيا، مقبولة. إصرار حلف الناتو على التوسع شرقا في حد ذاته مشكلة لأنه يستهدف روسيا، بغض النظر عن التفاصيل. مشكلة بوتين هي في المرور إلى القوة القصوى وبدء احتلال عسكري لأوكرانيا كان بمثابة كابوس لم يكن يخطر على بال. من المؤكد أن بوتين يدرك خطورة عواقب ما أقدم عليه، على بلاده وعلى نفسه. يكفي أن اسمه سيرتبط بهذه الحرب مثلما ارتبط أدولف هتلر بالحرب العالمية الثانية. ورغم ذلك تجرأ وفعلها.
الشيء الوحيد الذي يمكن أن يفسر إقدام بوتين على هذه المغامرة، هو إيمانه (عن حق أو عن باطل هذا نقاش آخر) بأن الرهان والنتيجة حاسمان ويستحقان عناء التصرف بهذه الطريقة.
من المؤكد أن بوتين يدرك خطورة عواقب ما أقدم عليه، على بلاده وعلى نفسه. يكفي أن اسمه سيرتبط بهذه الحرب مثلما ارتبط أدولف هتلر بالحرب العالمية الثانية. ورغم ذلك تجرأ وفعلها
أوكرانيا واقعيا هي آخر مساحة بين حلف الناتو وروسيا. وهي العقدة الأخيرة والأهم بين روسيا والغرب بقيادة الولايات المتحدة وأوروبا. انضمامها رسميا للناتو ولاحقا ربما للاتحاد الأوروبي يعني أن الغرب أتمَّ مهمته في شرق أوروبا وعلى تخوم روسيا. لكن بالنسبة لبوتين والروس المهووسين بأمنهم القومي، «ضياع» أوكرانيا أمر غير مقبول ومسؤولية قومية وتاريخية.
هؤلاء الروس، وعلى رأسهم بوتين، لن يغفروا لبلادهم وقوفها متفرجة على انضمام 14 دولة من المعسكر الشيوعي ودول الاتحاد السوفييتي السابق إلى حلف الناتو واحدة تلو الأخرى خلال العقدين الماضيين. ويعرفون أن قليلا من السلبية المماثلة ستنتهي بانضمام ما تبقى من الدول وعلى رأسها أوكرانيا إلى الحلف أمام أعينهم. فكان لا بد من الضرب بقوة.
فوق الرغبة في وقف التحاقها بالغرب لعقود طويلة مقبلة، أراد بوتين أن يُلقّن أوكرانيا درسا لن تنساه، ومن ورائها رسالة ترهيب لدول البلطيق وما تبقى من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق التي تتأرجح في مواقفها وسياساتها بين الولاء لروسيا والرغبة في الالتحاق بالنادي الغربي.
غزو أوكرانيا وسيلة وليس هدفا في حد ذاته. ولا بد أن القيادة الروسية أعدت خطة وأدوات تحقيق هدف منع «ضياع» أوكرانيا. من هذه الأدوات تغيير النظام الحاكم في كييف. الآن وقد باتت القوات الروسية بعديدها وعتادها في العاصمة وكبريات المدن الأوكرانية، يبدو تغيير النظام في متناول اليد، أو على الأقل يستحق عناء المحاولة.
غير أن الأمر لا يخلو من مخاطرة. فتغيير النظام الحالي بآخر موال لموسكو يعني فعلا تحييد أوكرانيا، لكن مَن سيضمن بأن الأوكرانيين سيستسلمون للأمر الواقع؟ ومَن يضمن أن القوى الغربية ستقف متفرجة وهي التي رعت التغيير السياسي في كل دول أوروبا الشرقية منذ 1991 وكان لها دور فيه؟ الغرب الذي شجع الأوكرانيين على الثورة على الرئيس فيكتور يانوكوفتش حتى فراره من البلاد في بداية 2014 لمجرد رفضه توقيع اتفاق شراكة وتجارة حرة مع الاتحاد الأوروبي، هذا الغرب لن يقبل بـ«حميد كارزاي» روسي في أوكرانيا يدين بكرسيه لموسكو ويتلقى الأوامر منها.
الضمانة الوحيدة لبوتين هي حضور روسي في أوكرانيا متعدد الأوجه وطويل الأمد يتغلغل في مفاصل الدولة وأجهزتها ليتسنى له تغيير وضعها الحالي والتحكم في قراراتها المصيرية. هذه هي الطريقة الأكيدة ليضمن بوتين بأن أوكرانيا لن تفلت منه الآن ومن روسيا بعده. وهذا ما يفسر تدخله العنيف في أوكرانيا خلافا لتصرفه في كازاخستان وبيلاروسيا وفي الصراع بين جورجيا وأرمينيا (تصرف ناعم ضلل الأوكرانيين والسياسيين والمحللين وصنّاع القرار عبر العالم). هذا السيناريو يحتاج إلى اعتراف دولي ولو جزئي. ويحمل مخاطرةَ بأن تتحول أوكرانيا الى دولة فاشلة لا تفيد أحدا بل تشكل خطرا على روسيا وعلى الغرب معا.
احتلال أوكرانيا يختزل ذهنية روسية تؤمن بأن «كل شيء إلا أوكرانيا» لأن «ضياعها» لصالح الغرب يعني تعرّي روسيا تماما أمام عدو يتربص بها في كل لحظة. قيل في القدم: من السهل أن تختار بداية الحرب، لكن من الصعب أن تختار نهايتها.
وقيل إن بعض الحروب أنت منهزم فيها حتى لو انتصرت. الغزو الروسي لأوكرانيا أحدها حتى وإن كان لا يزال من المبكر الحكم عليه.
كاتب صحافي جزائري
“القدس العربي”