«عادت الحرب إلى أوروبا» بناءً على هذا الإعلان خاطب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مواطنيه، وهو ليس بالقول الهيّن، لأن أحد المبررات الأيديولوجية الأقوى للمشروع الأوروبي المعاصر كان، ضرورة إزالة الحدود وتوحيد العملة وربط الاقتصاد بين الأوروبيين، كي لا يعودوا إلى أزمنة الحروب البغيضة، خاصة أن الحربين العالميتين، كانتا بشكل من الأشكال تحملان طابع الحروب الأوروبية. الأسوأ أن أحد أسباب اندلاع الحرب الأوكرانية كان محاولة توسيع المشروع الأوروبي، أو حتى تضخيم «الغرب» نفسه، ليصل إلى تخوم روسيا التاريخية. ماكرون تجرّأ إذن على التلميح إلى نهاية المشروع، الذي لعبت بلاده فيه دوماً دوراً محورياً.
لكن أي حرب عادت إلى أوروبا؟ سبق لكثير من المفكرين، خاصة المحسوبين على المدارس المختلفة لما يسمى «بعد الحداثة» الحديث عن تغيّر أساسي في طبيعة الحروب المعاصرة. أنطونيو نيغري ومايكل هاردت مثلاً، في كتابهما «الإمبراطورية» أكدا أن الحروب في إمبراطورية العولمة تخاض على شكل عمليات بوليسية مستمرة، تشنها تحالفات من الدول القوية على البلدان الأضعف. وكأنها محاولات لضبط الأمن الداخلي، وتأمين استمرار تدفقات السلع والأموال والمعلومات، في كيان عالمي موحّد دون مركز صلب. وبالفعل كان هذا يبدو صحيحاً في حالة «الحرب على الإرهاب» أو التدخلات في دول فاشلة و»مارقة» مثل العراق ومالي.
من جهته تحدث جان بودريار عن أن الحروب المعاصرة لا تقع فعلاً، ليس لأن العنف والقتل لا يحدثان، بل لأن الصورة المقدّمة عن الحرب لم تعد تحيل إلى واقع ونتائج فعلية صلبة، بقدر ما تقدم واقعاً فائقاً Hyperreality، أي محاكاة Simulation مؤسسة على علامات تتضمن بذاتها الاستجابة ورد الفعل المتوقع منها، ومجموعة من الإشارات المستنسخة دون أصل، قيمتها ودلالتها تنبع من موقعها في نظام العلامات المتداولة، وليس من صدقية دلالتها على الوقائع. هكذا يتابع البشر الحروب المعاصرة على وسائل الإعلام وكأنها مباراة كرة قدم.
إلا أن الحرب الأوكرانية لا تشبه كثيراً مباريات كرة القدم، رغم كل الصور المقدّمة على وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، التي تحاول تلميع أحد أطراف الصراع، أو تأسيس موجة تضامن عالمي عارمة معه. هنالك وقائع وعمليات عسكرية وصدامات دولية وقومية، وتهديدات فعلية للأمن والسلام العالميين، تفيض وتتفلّت دائماً عن الصورة الإعلامية للواقع الفائق، لدرجة يبدو فيها أن نمط الحروب الكلاسيكية قد عاد ليحتل المشهد. هل انتهى إذن عهد الحروب «بعد الحديثة» المنضبطة ضمن نطاق جغرافي معين، والقابلة للتقديم ضمن محاكاة من العلامات البرّاقة المُسيطر عليها بسهولة؟ وهل تُنبئ عودة الحروب إلى أوروبا، التي اندلعت هذه المرة على الطريقة الروسية، بعودة ظروف بائدة، اتسمت بثقلها وقبحها؟ وما نتائج هذا على إدراكنا المعاصر لمفهوم «الواقع» نفسه؟
عصرنة عتيقة
نظرة إلى أهم القضايا المعاصرة، قد تُظهر المحاكاة السائدة للواقع طيلة السنوات الماضية أشبه بمزحة سمجة: معظم الأنباء تتكلم عن وباء عالمي، مشاكل خطوط الغاز وغيره من موارد الطاقة، حركة الناقلات البحرية العملاقة، أوضاع المعامل والعمال المنتجين للسلع المادية حول العالم، المسائل القومية العالقة منذ القرن التاسع عشر، مناطق النفوذ الحيوي للدول. أليست هذه هي القضايا نفسها، التي لطالما حرّكت العالم طيلة القرون الماضية، وكانت من أهم أسباب الحروب ضمن أوروبا؟
لا يتعلّق الأمر بإظهار مدى تسرّع بعض المثقفين الغربيين «بعد الحداثيين» وانفصالهم عن الواقع، لدى حديثهم عن شرط جديد غيّر النظرة إلى العالم، فحتى سياسي متمرّس، مثل الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، تحدث في «عقيدته» عن مستقبل ما، لم تعد تعنيه الأيديولوجيات القديمة، مثل القومية والجماعة والدين، بل يهتم أساساً بالتفوق التكنولوجي والاقتصادي، والقدرة على الابتكار والانفتاح على الآخر، ورفع الإمكانيات التنافسية للدول والأفراد، في عالم بات موحّداً أكثر من أي عصر مضى. ولذلك رأى أن الاهتمام الأمريكي يجب أن ينصبّ على أقاليم من العالم أدركت هذا بوضوح، مثل جنوب شرق آسيا، وليس على مناطق ما زالت تعيش في الماضي، مثل العالم العربي وروسيا.
يبدو لهذا أن الحرب الأوكرانية، مثل أي حرب مهمة في التاريخ، لها جانبها الأيديولوجي الحاسم: إذا نجح الغرب في التصدي للحملة الروسية، فسينتعش منطق المحاكاة، ونغرق في صور وعلامات برّاقة عن انتصار «إرادة التغيير» لدى الأوكرانيين؛ وإن تمكنت روسيا من تحقيق أهدافها في أوكرانيا، فقد يتلقى النموذج الليبرالي، بنظرته عن الذات والعالم، ضربة كبيرة، ربما تغيّر مفاهيمنا عن الواقع.
لا يبدو أن العالم اليوم يجاري عقيدة أوباما، ولا يشبه سوقاً مفتوحة، تعطي المجتهدين والأذكياء المكاسب التي يستحقونها. ما اعتُبر أوهاماً تنتمي لعصر مضى يطغى اليوم على عالمنا بقوة، لدرجة أنه يحدد حياة كثير من البشر، ليس فقط الذين يعيشون في مناطق الحروب التي «لا تقع» بل أيضاً في الدول الأكثر اندماجاً في منظومة الابتكار و»التدفقات الحرة». يتعرّض البشر في أوروبا الغربية والولايات المتحدة اليوم أكثر فأكثر لخطر الإفقار والحروب والأوبئة العالمية، التي لم تكن بالنسبة لهم سابقاً أكثر من أخبار على شاشات تلفزيوناتهم وهواتفهم الذكية، ولا تستدعي إلا بعض التضامن الأخلاقي السهل والمجاني.
بهذا المعنى يبدو أن كل دعوات العصرنة، التي ادعت أن الروايات الكبرى قد سقطت، لحساب هموم «فئات جديدة» تتسم بفردانيتها وحساسيتها الذاتية، قد باتت هي العتيقة نوعاً ما. وربما يكون أكثر اتفاقاً مع «روح العصر» البحث عن منظورات جديدة، تستوعب قول من يُعرّفون أنفسهم بصورة مغايرة لما هو معياري من منظور الأيديولوجيا الليبرالية المعاصرة، فربما يكون هذا هو «التنوّع» الفعلي، وليس فردنة كل أشكال الذاتية، وإعادة إدماجها في منظومة ذات خطاب وتوجه أحادي.
يمكن القول، للأمانة، إن الأيديولوجيا الليبرالية الحالية، في صيغها الأكثر عمقاً، توقعت نزعات «غير عقلانية للاعتراف» حسب تعبير المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما، قد تهدد استقرار المنظومة الحالية، مثل نزعات التطرف الديني والقومي والأيديولوجي، لكن الوقائع الأخيرة، التي يشهدها عالمنا، لا تتعلق بدعوات هامشية، تُبرز رأسها في فترات متقطعة، ويمكن قمعها أو تطويقها بحكمة، بل يبدو أن النزعة اللاعقلانية الفعلية هي تصور عالم قد تجاوز كل مكامن الصراع الرئيسية فيه، والأسس المادية لوجوده واستمراره، لحساب محاكاة، ظهر أنها ليست أكثر من أيديولوجيا قصيرة العمر وضعيفة الفعالية، إذا قارناها بالأيديولوجيات الكبرى في العصر الحديث.
مدن بلا سبب
الحديث عن تقادم مفهومنا عن العصرنة يقود للتفكير بالفئات، التي اعتبرت دوماً ممثلة لـ»المستقبل» وغالباً ما تنحدر من سكان المدن الكوزموبوليتية الكبرى، القادرين على إبداء أكبر قدر من المرونة، سواء في شروط عملهم، أو استقرارهم أو حياتهم الاجتماعية. ويعانون دائماً من مدى جهل غيرهم من الفئات، وإمكانية انجرارها لأفكار وتصورات غير عقلانية. ما يجعلهم مضطرين للمشاركة في معارك كثيرة حفاظاً على الوضع القائم، تكون مساهمتهم الأبرز فيها إظهار مدى وعيهم وأخلاقيتهم.
تستهدف حملات صناعة التضامن هذه الفئات دوماً، فسواء في الاحتجاجات المعادية لحكم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، أو المواقف المؤيدة للإجراءات المرتبطة بمواجهة فيروس كورونا، أو التضامن الحالي مع أوكرانيا، يصبح الاصطفاف ضمن موقف موحّد، لا يقبل أي نوع من التمايز والاختلاف، معياراً لمدى صلاحية الفرد لأن يكون جزءاً من الصورة العامة المتداولة. بهذا المعنى تندمج الذوات المفردنة في محاكاة شاملة، لا تهتم كثيراً بإحالاتها إلى تعقيدات الواقع، بقدر اندراجها في منظومة تلقي وإصدار العلامات الخاوية من الدلالة، المقبولة والمصادق عليها.
تساءل عدد من المفكرين في ما مضى عن طبيعة المدن المعاصرة: لماذا يعيش فيها كل هؤلاء البشر، دون أن تجمعهم روابط اجتماعية أو مهنية أو سياسية متينة؟ ربما كانت مراكز تلك المدن، وجمهورها المتجاور بلا سبب، غير قادرة لوحدها على تكثيف الشرط الإنساني في عالمنا، أو حتى فرض هيمنتها بشكل حاسم، ولذلك يصطدم سكانها «الواعون» دوماً بكثير من أنماط الحياة الأخرى، التي يعتبرونها جاهلة وغير أخلاقية. وهم الآن يجدون أنفسهم وسط حروب وأزمات تؤثّر في حياتهم، لكنها تفلت من وعيهم السليم.
حرب أيديولوجية
قد يبدو لهذا أن الحرب الأوكرانية، مثل أي حرب مهمة في التاريخ، لها جانبها الأيديولوجي الحاسم: إذا نجح الغرب في التصدي للحملة الروسية، فسينتعش منطق المحاكاة، ونغرق في صور وعلامات برّاقة عن انتصار «إرادة التغيير» لدى الأوكرانيين؛ وإن تمكنت روسيا من تحقيق أهدافها في أوكرانيا، فقد يتلقى النموذج الليبرالي، بنظرته عن الذات والعالم، ضربة كبيرة، ربما تغيّر مفاهيمنا عن الواقع. إلا أن الأمر لا يمكن اختزاله بهذه الثنائية الحاسمة، فعودة الحرب إلى أوروبا قد تكون علامة لا راد لها على انهيار المشاريع السياسية القائمة، ومآزق الأنظمة الاقتصادية المعاصرة، المنتجة بنيوياً للأزمات. وبالتالي فإن تعطّل منظومة المحاكاة الأيديولوجية السائدة لن يتم إصلاحه حتى بانتصار غربي في أوكرانيا، وستجد المنظورات المغايرة والمتعددة للواقع دائماً طرقها الخاصة للبروز والتعبير عن نفسها، في سياق حروب واضطرابات أخرى مقبلة.
كاتب سوري
“القدس العربي”