هل يمكن قراءة الحرب ثقافيا، وتسويغ البحث في أنساقها المضمرة؟ وهل يمكن تجريد هذه القراءة من مهيمنها الأيديولوجي والعصابي؟ وهل ثمة ترابط بين الحمولة الثقافية للحرب، ومنزع علاقتها بالحداثة المسؤولة عن الحربين العالميتين؟ وهل سنجد أنفسنا عند موقفٍ متعالق بما تقترحه تلك القراءة، أو تتمثله، بوصف أن ما يجري هو حرب تمارسها المركزية الحداثية، ولكن بأدوات وأفكار ما بعد حداثية؟
هذه الأسئلة لا تعني أننا منحازون تماما إلى ما تبقى من الحداثة القديمة، وإلى مشاريعها الاستعمارية، وإلى طبيعة مهيمناتها التي تتكئ على مخازن الأسلحة، واقتصاد السوق، وعلى الأدلجات العصابية، بقدر ما تعني أننا خائفون، وأننا غير قادرين على التخلّص من أوهام مركزية عنف تلك الحداثة، ومن فرضياتها في السيطرة والرقابة والتعالي..
نقد الحرب الغرائبية في أوكرانيا ليس خيارا جاهزا، رغم أن الانتصار الكامل فيها سيكون قريبا من الوهم، لأنه يعيدنا إلى الجنرال ديغول الذي قال ذات مرة عن «الحرب الباردة» إن أمريكا أدخلت «الاتحاد السوفييتي» في حربٍ لا انتصار فيها، وإنها لن تحدث أبدا، ما يعني أن حرب الرأسمالية مع الشيوعية ستواصل لعبتها المضللة، وعبر أقنعة متعددة، حروب إقليمية، وحروب اقتصادية وثقافية، من منطلق إحياء حرب الأفكار والبروباغندا والإعلانات والأدلجات والأسوق والمكتبات والمنصات الإعلامية والأفلام السينمائية، بعيدا عن التورط في خيارات الحرب النووية.
هذا اللاخيار ليس بعيدا عما يجري الآن بين روسيا والأطلسي، إذ لن يكون هناك خيار آخر، سوى ما تقوم به «قوى المركز الحداثي» من خلال فتح صناديق «الحروب الصغيرة» تلك التي تنثر شرورها عبر التفاصيل، وعبر حروب الإعلام والاستهلاك والعقوبات الإدارية والمالية، لكن أخطر تجلياتها «غير المحسوبة» قد تنزع إلى إعلان حرب العصبويات، والعودة إلى عقد الهويات «القاتلة» بتوصيف أمين معلوف، تلك التي ستمتد إلى الأنساق المضمرة في الأفكار، وفي الاجتماع، ولعل ما ظهر منها يكشف عن تغوّل العصاب القومي/ الهوياتي والعصاب الثقافي، حيث كراهية ديستويفسكي وتولستوي والشكلانيين الروس، وحيث إخراج كرة القدم الروسية وراقصات البولشوي من النسق الأوروبي.
نحن ورؤيا العالم
رؤيتنا العربية للعالم قد تصاب بعدوى الكراهية، والعزل، وتتماهى مع أوهام المركزيات الحداثية المتصارعة، ولأسباب تتكاشف مع طبيعة علاقتنا المشوهة مع هذه المركزية، أو تلك، لذا ستظل تلك الرؤية قلقة، لأنها لا تملك خصوصية التحرر من المهيمنات الكبرى، ولا من سرديات الآخر، ولا عن حروبه وأدلجاته، ولا أحسب أننا بهذا التوصيف نعدّ أنفسنا شركاء حقيقيين مع ذلك الآخر، حتى نشاطره غنائمها وأعطياتها، فنحن خارج المعادلة، ولا نملك قوة خاصة في «الردع الثقافي» لمواجهة سلطته، ولا للتعاطي معها في سياق الرفض، أو المنافسة، او الرد، أو التواصل، لأننا من وجهة نظر الآخر سنظل «آخرا» مهملا ومُهمَشا، وأننا لا نعدو سوى «أنظمة سياسية» محلية، لا علاقة لها بالحلول الكونية، ولا بالسياسات والاستراتيجيات التي تحكم العالم، والرؤية إليه..
مشاكلنا بالنسبة للآخر محدودة وضيقة، ولا خصوصية «عالمية» لها، إلّا في سياق حيازة الثروات، وضبط الممرات المائية، أو امتلاك الأسلحة القذرة، أو التنمر بعلاقات مع آخر مختلف أيديولوجيا وتسليحيا، وهذا ما يجعل حصرنا في زاوية ضيقة من الأمور السهلة، وأن طريقة فهمنا ليست معقدة ولا صعبة، وكلّ ما نحتاجه لتبرير الخوف هو «الطاعة» والتغيير الذي يشبه المحو، أي تغيير طرائق التفكير والعلاقة مع التاريخ والهوية والحداثة والحرية والديمقراطية، وغيرها من المفاهيم الباردة، وعلى نحوٍ يجعلنا أكثر استعدادا للذوبان في مشروع الآخر، وفي أطروحاته عن الحداثة، أو ما بعدها، والتماهي مع نظرياته، في التعالي وفي التسليح، وفي تأهيل منظوماتنا، لشرعنة وجود السوق الحرة، والاقتصاد الحر، والأمن السبراني والفرجة والتسوّق، مقابل رمي نصف تاريخنا إلى البحر، أو تخليده في متاحف للشمع أو للتراث الشعبي..
النقد النووي هو ما يجب أن نُصرّح به عاليا، وأن نقرأ سردياته في إمعان، وفق معطيات تؤسس خطابها على نقد السياسيات المؤدية إلى الرعب النووي، بما فيها نقد الخطاب العلمي والخطاب المخابراتي والخطاب الرئاسي والمؤسساتي، وهي خطابات تمنح السلاح النووي نوعا من الشرعة الدفاعية، بوصفه مظهرا للقوة الرادعة، التي تسوّغ للسيطرة.
هذه ليست دعوات لجلد الذات، ولا لتبرير الضعف إزاء الآخر، أو للرضا بـ»القسمة والمكتوب» كما يقول شعبويونا، ولا حتى للتعبير عن عجز مؤسساتنا السياسية والثقافية، وسوء إدارة ثرواتنا لتكون جزءا من قوة الخطاب والهوية، بقدر ما هو دعوة للمراجعة النقدية والنفسية، وأظن لا عيبَ في مشروع المراجعة، ولا حتى الدعوة إلى التفكير بصوت عال، لأن ما يجري الآن يكشف عن غياب تلك المراجعة، مع افتضاح كثير من «العورات السياسية» و»العيوب الثقافية»، فما يجري من تداعيات في الحرب الأوكرانية الروسية، بقطع النظر عن الموقف منها، يكشف عن الطبيعة الإشكالية للتفكير الصراعي، وللتعاطي مع طبائع المهيمنات ورعبها، ومع سياسة المراكز الكبرى، بما فيها «مراكز الحداثة» التي ما زالت تحكمها عناصر القوة، و»الذات البيضاء» و»الهوية الشقراء» والعدو الشرقي، واللغة المناوئة، وكلها في الجوهر أشكال نسقية لمهيمنات عنصرية، تعكس بشاعة تلك المركزية الحداثية، وشراهة العقل الامبراطوري الغربي.
سرديات النقد النووي
نقد العقل العربي، ظل نقدا عائما، لأن اصحابه لم يتجرؤوا على نقد السلطة، ولا على نقد الخطاب الديني، ولا حتى نقد علاقتنا بالآخر، إذ ظل هذا النقد بلاغيا، وسفسطائيا، وتعمويا، وأكثر تجلياته قد تحضر في أطروحات النخب الثقافية، عبر منصاتها المعزولة، أو في دروسها التعليمية، أو في مؤتمراتها التي تُطوى ملفاتها وتُركن في الزوايا، ومن يخرج عن الطور فيها سيجد نفسه مقتولا، أو ملعونا أو مطاردا ومطرودا ومهمشا، كما حدث للبراهمي وبلعيد ونصر حامد أبو زيد وحسن حنفي والسيد القمني وحيدر حيدر وغيرهم..
الحدث الأوكراني، ليس حدثا نقديا، بقدر ما هو حدث سياسي وأمني معقد، لكنه كشف عن ذاكرة مرعبة لحروب التاريخ، ولكل ما يتعلق بفكرة الهيمنة، بما فيها هيمنة التفوق الأيديولوجي والعسكري والنووي، وبرهاب حصار العدو، عبر الجغرافيا، وعبر الأسلحة، والأسواق، وباتجاه وضعنا أمام خطورة عنف الحداثة، و»الخوف النووي» وصواريخه العابرة للأمكنة، وللأوهام الثقافية..
حدث هذه الحرب عالمي، حتى إن بدا محدودا، وفي جغرافيا ضيقة، لكنه امتد وتضخم لتبدو عالميته، وكأنها قناع لفيروس أكثر رعبا، وله قابلية التحوّر لتهديد العالم، ولمساواة البشرية في فكرة الموت والمحو، دون النظر إلى ثنائية الموالين والمعارضين، وإلى طبيعة المتاريس والحصون التي تحتمي بها الدول ومجتمعاتها. النقد النووي هو ما يجب أن نُصرّح به عاليا، وأن نقرأ سردياته في إمعان، وفق معطيات تؤسس خطابها على نقد السياسيات المؤدية إلى الرعب النووي، بما فيها نقد الخطاب العلمي والخطاب المخابراتي والخطاب الرئاسي والمؤسساتي، وهي خطابات تمنح السلاح النووي نوعا من الشرعة الدفاعية، بوصفه مظهرا للقوة الرادعة، التي تسوّغ للسيطرة، والتي قد تدفع البعض لحيازة هذا السلاح، ومن دول شتى، تبرر خياراتها بالاختلاف السياسي والعقائدي وبالخوف من الآخر.
الحداثيون وحرب ما بعد الحداثة
الأطلسيون والروس والأوكرانيون ينتمون إلى مركزة الحداثة، وإلى مسؤولياتها في السيطرة وفي التعالي، وفي تجسيد فرضية القوة، لكن الذهاب إلى اختيار الحرب كان رهانا على أسلحة ما بعد الحداثة، حيث تقويض المركز، وإرجاء المعنى، وتشظية القوى الصغيرة، وبالطريقة التي تُفرض فيها سلطة المعسكر على السوق، وسلطة الدوغما على سلطة الحرية، وسلطة الإرهاب النووي على سلطة السلام، فضلا عن النزوع إلى تقويضات مجاورة تعمد إلى إعادة إنتاج مفاهيم الهيمنة، لتبدو أكثر قهرا على الاجتماع الإنساني وقيم التعايش والعدالة والحق ونظم المجتمع المدني ومجتمعات الرفاهية في الثقافة والرياضة والأزياء والفنون والمكتبات والمقاهي والفرجة ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها..
بشاعة صراع الحداثيين على مراكز الهيمنة، والثروات والأسواق والأسلحة، بدا أكثر افتضاحا عبر استخدام كلّ الحيل النسقية، للتبرير، والتسويغ، عبر الخطاب الإعلامي، والخطاب الأنثروبولوجي، وعبر تقويض العلاقة مع الآخر، ليبدو عنفه مهددا للأفكار القرينة بمفاهيم التجاوز، والقطيعة المعرفية التي تحدث عنها باشلار وفوكو وغيرهم، بوصفها تعبيرا عن التحوّل الكيفي إلى المابعد، وبكل ما تعنيه من جدّة من تقويض لما هو نمطي في تداولية مفاهيم السلطة والاجتماع، ولتحويل رعب الحرب إلى أداة لتكريس المركز البشع، حيث سلطة السلاح والجنرال والتطرف والكراهية والحصار والجوع، وهي مظاهر تسلطية لحروب الحداثة التي نجد أمثلتها المركزية في الحروب العالمية، وفي حروب الشرق، وحروب الجماعات الإرهابية.
كاتب عراقي
“القدس العربي”