هذا مسار عجيب، أو غير مألوف على الأقلّ، لطائرة ركاب ليبية: إقلاع من مطار دبي، وهبوط في مطار بن غوريون استغرق 90 دقيقة، وإقلاع إلى القاهرة بعدئذ؛ حسب وسائل إعلام إسرائيلية، بينها «هآرتس»، نشرت النبأ مطلع تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. غير أنّ العجب سرعان ما يتبدد، فيحلّ محلّه يقينُ العاديّ والمألوف والمتكرر إذا عُلم أنّ الشخصية التي استقلّت الطائرة كان صدّام خليفة حفتر، نجل المشير الليبي الانقلابي والقائد المعيّن ذاتياً في ما يًسمى «الجيش الوطني». وأيّ عجب، استطراداً، في أن يهرع هذا النجل إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي، متوسلاً الدعم (في شتى أشكاله، كما للمرء أن ينتظر) لمطامع والده في خوض انتخابات الرئاسة الليبية؛ مقابل الوعد بالتطبيع وإقامة علاقات دبلوماسية مع الاحتلال، وأصناف أخرى من المغريات والارتماءات تحت القدم الإسرائيلية.
وكان الليبيون، ومعهم كلّ معنيّ بالشأن الليبي يراقب المشهد من منظار مبسّط أو عفوي أو ساذج أيضاً، قد اكتشفوا هذا الفتى الصدّام في سنة 2016، حين ظهر فجأة خلال حفل تخريج ضباط ليبيين شهدته كلية الأمير هاشم للعمليات الخاصة في الأردن، وكان يتقلد رتبة نقيب، ويجلس إلى يمين اللواء عبد الرزاق الناظوري رئيس الأركان العامة لجيش حفتر. أبناء ليبيا تذكروا، أغلب الظنّ، أنجال العقيد معمّر القذافي من أصحاب الرتب العسكرية الموزّعة شذر مذر؛ وأمّا أبناء سوريا، فالأرجح أنهم تذكروا ترفيعات بشار الأسد: التخرّج من الكلية الحربية برتبة نقيب (القوانين العسكرية تخرّج الطالب الضابط برتبة ملازم)؛ وبعد شهرين فقط رُفّع إلى رتبة رائد، رغم أنّ القوانين تنصّ على خدمة لا تقلّ عن أربع سنوات قبل الترفيع إلى رتبة عليا جديدة؛ ولم يمض عام آخر حتى رُفّع الرائد إلى عقيد، من دون المرور برتبة مقدّم؛ وفي حزيران (يونيو) 2000، بعد ساعات أعقبت موت أبيه، رُفّع العقيد إلى رتبة فريق أوّل، وقائد عامّ للجيش والقوات المسلحة؛ قبيل ترشيحه لرئاسة الجمهورية، بعد اجتماع ما يُسمى «مجلس الشعب» وتعديل الدستور بما يتيح للوريث أن يتجاوز عقبة سنّ الـ40 كشرط للترشيح.
وفي خضمّ الاستعصاء الجديد الذي أعقب لجوء برلمان طبرق إلى تعيين فتحي باشاغا رئيساً للحكومة وتشبث عبد الحميد الدبيبة بالمنصب ذاته، الأمر الذي يزجّ ليبيا في أتون تصارع سياسي وعسكري وميليشياتي لا تُستبعد عنه أشدّ السيناريوهات دموية؛ مَن الذي يبرز على الساحة، فيرافق رئيس البرلمان عقيلة صالح في اجتماعاته مع رئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري؟ الصدّام حفتر دون سواه، بالنيابة عن أبيه كما قد يقول قائل للوهلة الأولى، ولكن بالأصالة عن نفسه أيضاً وكما تعلّمت شعوب عربية عديدة من التجارب المريرة لتوريث الأبناء، في سوريا والعراق ومصر واليمن طبقاً للأمثلة الأبرز على الأقلّ. وكان في وسع حفتر الأب أن يتواصل مع الاحتلال الإسرائيلي عبر عشرات الأقنية المتاحة، مكتومة كانت أم معلَنة، إلا أنّ الحرص على إيفاد حفتر الابن يدشّن في الآن ذاته سيرورة تصعيد الفتى لوراثة أبيه؛ وأية بوّابة خير من تل أبيب لإضفاء اللمعان السياسي على النجوم المعدنية التي تكلل كتفَيْ الضابط الصدّام!
لا استثناء، إذن، لقاعدة توريث استبدادية سبق أن صعّدت، أو سعت إلى تصعيد، أمثال جمال حسني مبارك، باسل وبشار حافظ الأسد، سيف الإسلام معمّر القذافي، عدي صدّام حسين، أحمد علي عبد الله صالح… وفي هذه النماذج لا يحدث أن يوافق شنّ طبقة، بين المورّث والوريث، بل يثبت الفرع أنه أكثر من الأصل فساداً واستبداداً ودموية وتبعية وانحطاطاً؛ ولعلّ القاعدة هنا تكمن، وهكذا تتكرر.
“القدس العربي”