البحث جارٍ عمّن يستطيع “إقناع” فلاديمير بوتين بإنهاء حربه على أوكرانيا، لكن إذا وُجد طرف قادر فماذا يمكن أن يقدّم إليه؟ كل الأفكار عُرضت عليه قبل أن يحرّك جيشه، ولم تكن كافية، ولا تزال فرنسا وألمانيا تحاورانه، فيما تحاول إسرائيل وتركيا استخدام قنوات مفتوحة معه، لكن من دون جدوى.
ثمة إجماع على أن الصين وحدها تستطيع فرملة بوتين، بعدما كانت شجّعته على المضي في مغامرته، آملةً أن ينجح سريعاً وأن يحقق مكاسب يُبنى عليها لتغيير النظام الدولي، كأن يتسلّم الكرملين وثيقةً من حلف الأطلسي تطلب إنهاء الحرب لقاء عدم ضمّ أوكرانيا الى عضويته، واعتراف دول الحلف بضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا. لكن شيئاً من ذلك لم يحصل ولن يحصل. لا تزال الصين داعمة لروسيا لكنها تراجع حساباتها باستمرار.
أما بوتين فيراقب الولايات المتحدة ويترقّب أي مبادرة منها. يحاول استعجالها واستفزازها، ملوّحاً تارةً بالتهديد النووي، وتارةً أخرى بالخطر البيولوجي والكيماوي. غير أن واشنطن تتوعّده بأنه سيدفع الثمن، تراسله بعقوبات متصاعدة لمساعدته على الغرق أكثر في “الخطأ”، والبعض يصفه بـ”الفخّ”، الأوكراني. ليس الدب الروسي من يُواجَه بمثل هذا التحدّي، فكلّما استُفزّ ازداد خطراً، تخريباً وتفظيعاً. يمكنه أن يغزو أوكرانيا ويحتلّها ويعلق في أوحالها، لكن هذا لا يكفي لطمأنة بوتين الى أمن روسيا، ولا يشكّل إشارة انطلاق الى “تغيير النظام الدولي”. لا بدّ من أنها اللحظة المناسبة للصين كي تتحرّك لـ”استعادة تايوان” وإعطاء دفعة متقدّمة لذلك “التغيير”، لكن ضخامة العقوبات الأميركية والغربية وسرعتها فاجأتا بكين، التي اكتشف رئيسها مخاطر على الأمن الغذائي الداخلي.
لم يكن عادياً أن يقول الرئيس الروسي شخصياً إن ثمة “تقدّماً” يُحرز في المفاوضات مع الجانب الأوكراني. سبقت ذلك تصريحات، على لسان فولوديمير زيلينسكي ومستشاره إيغور زوفنكا، مفادها أن أوكرانيا مستعدة لتسويات أو حلول وسط بالنسبة الى الانفصاليين ومناطقهم (“اتفاق مينسك” يلحظ حلولاً لكنه لم يُطبَّق، وكان بوتين أعلن إلغاءه)، وأنها لن تواصل الإصرار على الانضمام الى “الناتو”، ما دام الحلف “ليس جاهزاً لضمّها”، بل إن الاتحاد الأوروبي لم يبدِ حماسة لقبول عضويتها. لعل هذين الموقفين، الأطلسي والأوروبي، وعلى رغم تدفّق المساعدات الاقتصادية والعسكرية الى كييف، دفعا زيلينسكي الى القول إنه “لن يركع” متوسّلاً استجابتهما، خصوصاً أنه كرّر تحذير أوروبا بأنها ستكون “التالية”، بعد أوكرانيا، على لائحة التهديد البوتيني، لكنه أدرك بعمق أن الدول الغربية تدعم مقاومته للغزو، أما التدخل للدفاع عن بلاده فهو “خط أحمر” لا تريد تجاوزه.
شيء من “الواقعية”، ولو تحت وطأة الحرب، ربما يجعل زيلينسكي يفكّر في إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وربما يدفع كييف الى النظر في مطالب موسكو بحثاً عن حل تفاوضي يوقف الحرب، يبقي الدولة وجيشها، ويجنّب العاصمة والمدن الأخرى دماراً حتمياً. لكن بوتين الذي يُفشل كل الوساطات الخارجية ما لم تُلبَّ مطالبه، هو نفسه مَن يحبط أي محاولة أوكرانية للتعامل مع شروطه (دولة منزوعة السلاح ومحايدة، بموجب دستورها، ومعترفة بالجمهوريتين الانفصاليتين وبضمّ روسيا شبه جزيرة القرم). فكلّ ما هو دون أوكرانيا خاضعة لإرادة الكرملين، وليس “المحايدة” كما يُدَّعى، يعني لبوتين أن انتصاره سيبقى ناقصاً، والوقت لم يعد وقت سحب جيشه الى ما وراء الحدود، لأن الحدود انتُهكت وأزيلت. القتال تخطّى الشرق الأوكراني، والقصف بلغ قاعدة يافوريف قرب الحدود البولندية.
لا تبدو إشارة بوتين الى “تقدّم” في المفاوضات سوى تشجيع لكييف على بذل جهد إضافي نحو الاستسلام، ولذلك يواصل العمليات العسكرية ويرفع درجة القذارة فيها (استهداف المدنيين، حصار المدن والبلدات وضرب البنى التحتية لحرمانها من الكهرباء والماء، وقصف المستشفيات بعد المدارس والمخابز…)، ولهذا تفسير واحد: بوتين لا ينتظر نتيجة سياسية من المفاوضات، ولا يعترف إلا بالنتيجة التي يفرضها على الأرض، كما في غروزني وحلب، ولو تطلّب ذلك اتّباع سياسة “الأرض المحروقة”. وهكذا تتضاعف وحشية القصف كلّما ووجه الجنود الروس بمقاومة، تُعقد اتفاقات لإجلاء المدنيين ثم تُضرب قوافلهم، وتزداد خسائر القوات المهاجمة لكن الرئيس الروسي لا يهتمّ بإحصاء قتلاه. ثم إن لديه خزيناً جاهزاً من “المتطوّعين” الراغبين في القتال!
هؤلاء مرتزقة وليسوا متطوّعين لمساعدة الناس في دونباس “بمحض إرادتهم وليس من أجل المال”، كما وصفهم بوتين في اجتماع مجلس الأمن الروسي، مجيزاً تسهيل وصولهم و”منحهم ما يريدون” بعدما اقترح وزير دفاعه سيرغي شويغو تزويدهم صواريخ “جافلين” و”ستينغر”. كان ذلك من المرّات النادرة التي ينقل فيها الإعلام الرسمي تفاصيل كهذه من مداولات القيادة الروسية. بالطبع كان ذلك رداً على تدفق متطوّعين غربيين حقيقيين تلبية لدعوة الرئيس الأوكراني، حتى أن الجانبين استخدما العدد نفسه للذين وصلوا بالفعل (16 ألفاً).
مع بدء الغزو، كانت موسكو قد سحبت من سوريا جزءاً من قوات شركة “فاغنر” والمقاتلين الشيشانيين، وجنّدت عناصر من إحدى الميليشيات الشيعية في بصرى، ثم راحت تتحوّج “المتطوّعين” من أرياف حماة وحلب ودير الزور ودمشق والجنوب، بمساعدة من أجهزة النظام السوري، مع تركيز على ميليشيات مذهبية نشأت برعاية روسية (اثنتان منها يتزعمهما سيمون الوكيل ونابل العبد الله، الحائزان “وسام الكرملين” تقديراً لخدماتهما). ثمة أربعون ألفاً تسجّلوا ويجري إعدادهم للسفر في قاعدة حميميم.
المرتزقة لا يحسمون الحرب لكنهم الوقود الرخيص المناسب لها، وغالباً ما يؤشّر استدعاؤهم الى أن الصراع طويل أو بلا نهاية، أو لعله ينذر بنهاية البلد الذي يُقحمون فيه لقاء 200 أو 300 دولار للفرد. أنهت روسيا في 1999 حلم الشيشان بالاستقلال، وأنهت بدءاً من 2015 حلم التغيير في سوريا، متخذةً من هذين البلدين حقلي تجريب لأسلحتها وتدريب لجيشها استعداداً لما يحصل الآن في أوكرانيا، ولما بعدها. وإذا كان نظاما رمضان قديروف وبشار الأسد هما النموذجين المحبّبين لدى بوتين فلا بدّ أنه جهّز بديلاً مشابهاً لتنصيبه في أوكرانيا.
“النهار العربي”