لا تبدو المعلومات الواردة من الحدود البولندية حول مشكلة اللاجئين والتمييز العنصري تجاه غير الأوروبي، سوى جزء من معضلة تاريخية تحتمل الكثير من الأسباب، مع التأكيد على أن العنصرية ليست حكراً على مجموعة بعينها، فالعنصرية جزء من الثقافة، ولكن أبعادها تتخذ مظاهر متعددة، حيث هنالك من يضمرها، وهناك من يطلقها، وفي كلا الحالين تبقى قائمة، مع أن هناك أيضاً من يرفضها، غير أن أقسى التجارب العنصرية كانت جزءاً من تاريخ الغرب، وذاكرته، كونها شملت مراحل تاريخية، وقطاعات واسعة من العالم، كما أنها أحدثت أثراً في مستقبل الآخر، كما في مرحلة الاستعمار، فالعنصرية الغربية حالة قهرية، على الرغم من محاولاته المستمرة لتجاوزها حضارياً، حين دعت إلى احترام حقوق الآخر ولكن ضمن مستوى الممارسة الفردية، أو أنه بدا ظاهرة قائمة في حدود الثقافة الغربية، ولا يشمل ما هو خارج هذا النطاق، حين يتعلق الأمر بأعراق مختلفة، أو قضايا بعينها.
يبدو السلوك العنصري جزءاً من بنية عميقة متأصلة في اللاوعي الغربي، على الرغم من تكرار الادعاء بنفي ذلك، وهنا يمكن القول إنه سلوك ينهض على فكرة متجذرة لدى البعض، كما يتعلق بنموذج المتماثل في الثقافة الأوروبية لا بوصفها ثقافة قارية، إنما بوصفها ثقافة تحتمل الكثير من الجدل من حيث المشترك والمتغاير، وهنا يتحقق النظر إلى الثقافة الغربية بوصفها المعنى الأمثل لنموذج أعلى يتخذ ظاهرة المدار ومركزه الغرب أو الرجل الأبيض، وثقافته، ولننظر في أدبيات الغرب تجاه بعض القضايا، كالعنصرية أو الشتات وإشكاليات أخرى تتعلق بالاختلاف، فسنجد بأنه ينطلق على الدوام من مركزية المعضلة اليهودية، إذ يتوقف عند الجرائم النازية، بوصفها التجسيد الأكثر تشوهاً للعنصرية، وكأنه يعيد تشكيل هذه المفاهيم عبر التجربة اليهودية وحسب، أو بوصفها المعيار الأساسي لتشكيل الخطابات كافة.
ولعل هذا يُبنى على مفهوم أشمل ينهض على أن الغرب دائماً ما ينطلق من ذاته، ومن ثم تتسع الدائرة حتى تنتهي إلى حدود القارة، في حين ستبقى دائما تلك الكيانات الأخرى خارج الفضاء عينه، أو خارج مدار الغرب، وكأن ما يقع خارج حدوده ينتمي إلى الآخر الذي يعني الجحيم كما يقول سارتر.
من القضايا التي يمكن أن نعثر عليها في سياق مناقشة العنصرية، أن ثمة محاولة للالتفاف على تلك العنصرية لكي تخرج من عباءة العرق إلى أن تكون عنصرية ثقافية، وهي فعل كراهية لبعض الجوانب الثقافية كما نشهدها في معاداة الإسلام – كما يذكر كتاب «العنصرية: مقدمة قصيرة» – وهنا نرى أن ثمة جدلاً كبيراً في تحديد التباين والمنطلق، فهل يمكن أن تكون تلك الممارسات تجاه الآخر على الحدود البولندية، تشكلت جراء ممارسة ثقافية؟ لا يمكن أن نتيقن من ذلك، فعملية الإقصاء العنصري الكلاسيكي كانت تنهض على لون البشرة، واللغة، والعرق، ولكن المفارقة تتجلى على الحدود البولندية، أو الدولة عينها التي شهدت (الأوشفيتز)، لتكون بولندا عار العصر الجديد، حيث يُقصى على حدودها كل من هو غير أوروبي، فلا مانع أن يُلقى بهم في أتون الحرب لكونهم غير أوروبيين، أو لا ينتمون إلى العرق الأبيض.
إن معضلة العنصرية لا تبدو بهذا القدر من البساطة، كونها قد صاغت حيوات أمم وحضارات، كما تسببت بفناء ملايين البشر، إذ لا يمكن للعنصرية أن تنتهي إلا إذا تخلص الإنسان من معضلته المستمرة، وتتمثل في الحكم على الآخر انطلاقاً من تمكين الخطابات التي تنهض على فكرة التجانس والتغاير، وهي تتصل بالتشكيل الجمعي.
في ظل هذا الجدل الدائر أسهمت مواقع التواصل الاجتماعي في تشكيل رأي عام أحرج السلطات، ولكن التقييم السيبراني للأحداث يبدو جزءاً من المشكلة، حيث التحيز يبدو واضحاً، فلطالما ادعى الغرب أهمية عدم المزج بين الرياضة والسياسية، ومن ذلك أيضاً ادعاءات تنهض على أن مواقع التواصل الاجتماعي ليس فضاء للانتقاد، وبناء الكراهيات، وهنا نستذكر الحروب المتكررة في فلسطين، حيث كان يحجب أي محتوى مؤيد للقضية الفلسطينية، في حين تتجاهل الأعمال الوحشية للكيان الصهيوني كما تجاهل العالم من قبل مآسي الحرب السورية، وموجات النزوح التي باتت جزءاً من مروية الألم، على الرغم من أن المبدأ واحد، ونعني وجود قوة محتلة، وضحايا، في حين أن هذا تهاوى أمام الحرب الدائرة في أوكرانيا.
لا يمكن أن ننكر أن العنصرية قائمة لدى الجميع، وهي نتاج وعي لا يقتصر على التاريخي، إنما هو جزء من التمثيلات التي يعانيها الإنسان، ضمن بناء ثقافي مستمر، فثمة منظومات متكاملة من التنميط تجاه ما هو غير غربي، ولاسيما ما يتعلق بالشرق الأوسطيين وأصحاب البشرة الملونة، فمركزية العنصرية تنهض على وقائع الاختلاف، وهي وقائع لا منطقية، كون الاختلاف ليس سوى ظاهرة تحدد من قبل الوعي الزائف، إنها قراءة للآخر في حدود إدراك الأنا بوصفها أفضل من الآخر المختلف، فكيف يمكن أن يكون الاختلاف؟
ينظر إلى الاختلاف بأنه تكوين ثقافي نشأ منذ أقدم العصر، بحيث نجده لدى الفراعنة والإغريق والرومان والعرب والصينيين وغيرهم، كما الحضارات القديمة كافة، ولعل مصطلح العنصرية كما يذكر كتاب «العنصرية» بدأ استخدامه في القرن السادس عشر، لينتشر في ما بعد بين العديد اللغات، وليتخذ مع الزمن مفاهيم معقدة، ولكنه ما زال قائماً (ممارسة) في وعي الشعوب، سوى أكانوا أفراداً أم جماعات، حيث إن قرونا طويلة من التقدم تجاه معنى الحضارة لم يتمكن من محو هذه المعضلة من وعي الكائن البشري، وتعليل ذلك يعود إلى خاصية نفسية تتصل بالإنسان، وتتأسس على مفهوم الأفضل، أو المتفوق، ومن هنا يطرح الكتاب سؤالاً محورياً، ولاسيما بعد أن توصل الإنسان إلى قناعة بأنه لا يوجد معنى حقيقي أو عملي لواقعة العنصرية القائمة على التغاير والاختلاف؛ ونماذج التنميط من منطلقات علمية كما أظهرت الدراسات التي أثبتت بطلان هذا الادعاء، ومع ذلك فإن العنصرية ما زالت سائدة، ولاسيما في أوروبا وأمريكا الشمالية.
يفسر كتاب «العنصرية» ذلك بقوله بوجود ظاهرة العنصريين لا العنصرية، ولاسيما مع وضع قوانين تجرم العنصرية في جميع البلدان، ومع ذلك فإن العنصرية لم تمح كونها لا تتصل بما كان شائعاً من تمايزات تنهض على التكوين البيولوجي – كما كان شائعاً – إنما أصبح طبيعة الاختلاف الثقافي في المظهر والسلوك، أضف إلى ما سبق تمسك البعض بثقافته المحلية في وسط مغاير، وهنا نرى بأننا لا ننطلق في سلوكنا من قيم صحيحة أو علمية، إنما نتيجة التمثيلات والأنساق الثقافية المضمرة تجاه الآخرين، فهم لا يختلفون في الشكل أو لون البشرة واللغة وحسب، إنما الأهم في السلوك، وبمعنى آخر إنهم يهددون نمط الحياة والمبادئ الغربية.
إن معضلة العنصرية لا تبدو بهذا القدر من البساطة، كونها قد صاغت حيوات أمم وحضارات، كما تسببت بفناء ملايين البشر، إذ لا يمكن للعنصرية أن تنتهي إلا إذا تخلص الإنسان من معضلته المستمرة، وتتمثل في الحكم على الآخر انطلاقاً من تمكين الخطابات التي تنهض على فكرة التجانس والتغاير، وهي تتصل بالتشكيل الجمعي، كما العوامل الجغرافية واللغوية والدينية، التي قوامها ثنائيات: الشرق – الغرب والشمال – الجنوب، الغني – الفقير، وعلى الرغم من التقدم في سن التشريعات والقوانين تجاه تجريم العنصرية إلا أنها ما زالت قائمة ولكن بشكل مبطن في مختلف مجالات الحياة، فثمة دوما إقصاء لا يتخذ الصيغة الواضحة، غير أنه قائم، ويشهد تواطؤا حتى من قبل من يُمارس ضدهم هذا التمييز لكونهم يوجدون في مواقف تتطلب منهم الاستكانة، مع قبول الأمر الواقع لأسباب متعددة، منها الارتحال واللجوء، وفي بعض الأحيان الفقر، والخوف، وغير ذلك.
كاتب أردني فلسطيني
“القدس العربي”