أعلنت مؤسسة محمود درويش عن الفائزين بجائزة محمود درويش للإبداع لعام 2022، خلال حفل أقامته المؤسسة في قاعة الجليل، في متحف محمود درويش، تحت رعاية الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ويأتي الإعلان بالتزامن مع إحياء ذكرى ميلاد درويش في 13 آذار/مارس من كل عام، ومع «يوم الثقافة الوطنية الفلسطيني».
وعادت الجائزة هذا العام إلى الناقد الفلسطيني فيصل دراج، والناقد والمترجم السوري صبحي حديدي مناصفة مع الكاتب والمترجم والناشر فاروق مردم بك، والمغني والمؤلف الموسيقي روجرز ووترز. وكلّ واحد من الأربعة يستحقّ الجائزة لاعتبارات موضوعية وذاتية، إذ له قصة مع الشاعر الفلسطيني وشعره، على نحو من الأنحاء، وهو ما برّرته حيثيات اللجنة المحكّمة للجائزة.
التزام المعرفة
فالناقد فيصل دراج (1943) مفكر وناقد فلسطيني، حاصل على الدكتوراه في الفلسفة – فرنسا، يعكس من خلال مؤلفاته النقدية؛ مثل: «ذاكرة المغلوبين» (2001) و«الرواية وتأويل التاريخ» (2004) و«الحداثة المتقهقرة» (2005) وغيرها في مجلات ثقافيّة فكريّة (شؤون فلسطينيّة، سلسلة حصاد الفكر العربي) روح المعرفة التي تتفانى في عمله «من أجل تثبيت مفهوم حقيقي للنقد، يعتمد على آليات موضوعية دون التفريط في جماليات النصوص». وقد كرس بعض جهوده في النقد لشعر محمود درويش، بل لمجموع أدبه النثري، حين كشف قيمته الإبداعية و تحولاته التاريخية، بعد أن تعرّف عليه من خلال ديوانه «عاشق من فلسطين» عام 1970، وهو طالب في تولوز في فرنسا، ثم التقاه في بيروت بعد عودته من فرنسا، في مركز الأبحاث الفلسطينية عام 1975، حيث أصبح باحثا في «شؤون فلسطينية» التي كان الشاعر يشارك في تحريرها قبل أن ينصرف عنها إلى مجلة «الكرمل» يقول: «طلب مني، لاحقا، أن أكتب بانتظام في مجلته «الكرمل». كان ذلك أوائل عام 1981، واستجبت له إلى أن جاء شارون «بعملية سلام الجليل» في حزيران/يونيو عام 1982. أسهمت في الأعداد الخمسة الأولى بدراسات طويلة (الطليعة الأدبية – الواقع أم الواقعية – في الكتابة السياسية). أفدت من التجربة الكتابية الجديدة إفادة واسعة. كان درويش يومئ ولا يصرّح ويستشهد بكتابات جديرة بالقراءة، وكان إلياس خوري سكرتير التحرير، يمزح ناقدا وينقد مازحا، ومدير التحرير التنفيذي سليم بركات، الشاعر النبيه واللغوي الفريد والإنسان المصوغ من التهذيب وحرارة الحياة».
الصداقة المثمرة
أما الناقد صبحي حديدي (1951) فقد جمعته بالشاعر محمود درويش صداقة ثقافية متينة، و»كان من أهم المتابعين لأعماله نشرا ونقدا، وسمح لنصوصه بأن تصل إلى القراء على أدق صورة وأفضلها، بالخصوص أعماله الشعرية الأخيرة». ولا يمكن للقارئ المتخصص الذي يريد أن يشتغل على أعمال الشاعر، ويبحث في خواصّها النوعية، ألا يطلع على مقالات حديدي، التي شكلت لوحدها دليلا عمليّا يحيط بأبرز منعطفات هذا الشاعر في شعره ونثره معا؛ ضمن التزامه بعدالة فلسطين ونصرة مبدعيها ودفاعهم بالكلمة والفنّ عن الوجود والهوية، واقترابه من عوالم محمود درويش وصداقته له سنين عددا، أو ضمن انشغاله المعرفي والنقدي في المشهد الشعري العربي المعاصر. يقول: «ويقيني أنّ درويش شغل في الوجدان العربي العريض، وأظنه ما يزال يشغل، موقعا معقدا، يتجاوز صفة الشاعر، لأنه صار صوت فلسطين بوصفها فردوس العرب الضائع، وقيثارة فلسطين التي تداوي حتى حين تجرح، وتُشجي حتى حين تُدمي، وتشحذ قوّة الروح حتى حين تقف على اندحار النفس، وتبدو واضحة حتى حين تَغْمُض، ومتفائلة حتى حين تتشاءم، ورامزة إلى الجماعة حتى حين تصرّح عن الفرد. وعلى أكثر من نحو، كانت علاقة درويش بـ»جماهير» الشعر، على اختلاف شرائحها وحساسياتها، فريدة، وربما استثنائية بسبب ذلك الاجتماع المعقد للأسباب الموضوعية والذاتية».
وعن ثقافة الشاعر، أضاف: «شهدتُ بما أعرفه وعاينته عن كثب، من أنه كان قارئا نهما ومنهجيا، في حقول قراءة شائكة مثل، نظرية الأدب والفلسفة والتصوّف، فضلا عن التراث النقدي العربي، الأمر الذي تعزّز في العقدَين الأخيرين من حياته، حين مال أكثر إلى القراءة بالإنكليزية، واستردّ بعض العبرية. وفي الأعمال الإبداعية كان يقرأ الرواية، العالمية والعربية، أكثر من الشعر في الواقع؛ وعلى نقيض ما شاع، وأُشيع عنه، فإنه ظلّ حريصا على متابعة النتاج الشعري العربي الجديد، خاصة قصيدة النثر».
كما قدّم حديدي، بموازاة ذلك، دراسات معمّقة في التعريف بنظرية الأدب والمدارس النقدية المعاصرة: ما بعد الحداثة، ونظريات القراءة والاستجابة، والنقد التاريخاني الجديد، ونظريات الخطاب ما بعد الاستعماري، في سياق اهتمامه بكتابات المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد.
توسيع الدائرة
فيما ساهم الكاتب فاروق مردم بك (1944) من خلال إدارته للسلسلة العربية في دار آكت- سود Actes Sud، وبالأخص سلسلة «سندباد» التي تعنى بالدرجة الأولى بترجمة الآداب العربية الكلاسيكية والمعاصرة إلى اللغة الفرنسية، في رعاية أعمال درويش نشرا ومتابعة وترجمة إلى هذه اللغة، على نحو أوجد للمدونة الدرويشية الأدبية جمهورا مختلفا ونوعيا، يتعاطف من خلالها مع لهجة الشاعر ومأساته الشخصية، ومع القضية الفلسطينية ككلّ.
كما منحت الجائزة للفنان المغني والمؤلف الموسيقي البريطاني روجرز ووترز، مؤسس فرقة «بينك فلويد» وأحد أعضائها، لمواقفه المناصرة لقضية فلسطين وشعبها المقاوم، الذي يرفع العلم الفلسطيني خلال حفلاته الغنائية. كما غنى لمحمود درويش قصائد مشهورة بنزوعها التحريري؛ مثل: خطبة الهندي الأحمر أمام الرجل الأبيض.
وجدير بالذكر أن جائزة محمود درويش يتم منحها سنويا لكل مبدع فلسطيني أو عربي أو عالمي، تتوافر في نتاجه قيم الإبداع الثقافي الفنية والوطنية والإنسانية، إضافة إلى تكريس قيم العقلانية، والديمقراطية، والحرية والتنوير، التي تميز بها إبداع محمود درويش الشعري والنثري، ويمكن منحها للمؤسسات والهيئات الثقافية الجديرة بذلك، كما تُمنح الجائزة لمبدع أو أكثر في حالات خاصة تقترحها اللجنة.
ويحصل الفائز على جائزة محمود درويش على: شعار الجائزة، براءة الجائزة موقعة من رئيس دولة فلسطين، مكافأة نقدية قيمتها 25 ألف دولار لكل فائز.
كلمة صبحي حديدي:
اعتزازي شديد بهذا التكريم الفائق لأنه يحمل اسم الشاعر الفلسطيني الكوني الكبير، وبهجتي غامرة على نحو خاصّ، لأنّ فلسطين تلتفت اليوم إلى اثنين من أبناء سوريا، البلد الذي أحبه محمود درويش وكتب عنه بحرارة وتضامن وانتماء، وزاره مرارا، وتزوّج منه. وإلى الاعتزاز والبهجة، فإنّ هذه الجائزة تضيف دَيْنا جديدا إلى ديون درويش الشعرية والجمالية والأخلاقية الكثيرة، التي تراكمت في ذمتي، وتعاقبت على امتداد أربعة عقود. لقد قرأته للمرة الأولى وأنا في الخامسة عشرة من العمر، وأستطيع الجزم اليوم بأنّ فضائل قراءته لازمتني طوال سنوات النضج الأولى، وكان شعره أبرز مصادر تربيتي الجمالية، وأفضل وسائل تهذيب ذائقتي، وإغناء سيرورات المراكمة التكوينية، لما أزعم أنه اليوم عدّتي النظرية والمنهجية في دراسة النصّ الإبداعي. وكما هو معروف، لا يتوقف مشروع درويش الشعري عند المنجز الفردي للراحل الكبير وحده، بل يعبر المشهد الشعري العربي المعاصر، على نحو إشكالي وجدلي، بمعنى علاقته بالمشروعات الشعرية الأخرى، لجهة التأثير في الذائقة العامة و/ أو التحريض على خيارات أخرى، وخلخلة هذا أو ذاك من أنماط الإجماع. ولهذا فإنّ انخراطي في دراسة قصيدة درويش سلّحني من جانب آخر بمقدار إضافي من «الديمقراطية» و«الانفتاح» و«التعدّدية» ـ إذا جاز القول ـ في تناول أشكال أخرى من الكتابة الشعرية؛ وإنني هنا أتحدث عن قصيدة النثر بصفة محددة، حيث تبدّل موقفي منها مرارا قبل أن يستقرّ على النحو الذي يستدعيه هذا الخيار في الكتابة الشعرية، من ضرورات التعميق النقدي منهجيا وتطبيقيا، وبما يستحقه من تقييم وتكريم أولئك الشعراء الذين يكتبونه عن سابق وعي وموهبة ونضج ومعاناة. ولعلّي لا أبالغ حين أقول إنّ شعر درويش هو الذي شجعني على الذهاب بالطموح الدراسي إلى أقصى حدوده، الأمر الذي انطوى في الآن ذاته على كسر أكثر من «مدماك» تقليدي راسخ في دراسة درويش نفسه، والشعر العربي المعاصر إجمالا. وانطوى أيضا على مساءلة نقدية جذرية لثوابت قياسية وتنميطية كبرى أحاطت بالراحل الكبير، مثل «شاعر المقاومة» و«شاعر الأرض» و«مجنون التراب».. لصالح لقب واحد هو الأعلى تفضيلا عندي، ربما لأنه الأكثر انطباقا وأهمية ومغزى: محمود درويش الشاعر الكوني، أولا وأساسا.
“القدس العربي”