من الحجج التي ساقها الفنان السوري علي فرزات، دفاعاً عن الرسم الكاريكاتيري الذي استخدم فيه جسد إحدى أعضاء الائتلاف المعارض لـ»انتقاد» الأخير ولأدائه، أن الأجساد العارية تنتشر كموديلات في معظم متاحف وصالات العرض في العالم. والحجة تلك أراد من خلالها فرزات، الذي أثار عاصفة جدل وانتقادات، نقل الجدل من السلوك الذكوري في النظر لأجساد النساء كـ»عار» يمكن استخدامه في المعارك السياسية والنيل من الخصوم، إلى الدفاع عن الفن وحرية رسم الجسد العاري. وقد استفاد، في تكتيكه هذا، من عدد لا بأس به من المحافظين الذي اعترضوا على الرسم، لمجرد أنه يجسد جسد المرأة، وليس لأنه ينظر إليه من زاوية تحقيرية، ويستخدمه كدلالة على سوء أداء سياسي.
ومع أن عددا من المحافظين شنوا هجوماً على فرزات، لكنهم لا يختلفون معه كثيرا، لاسيما بما يتعلق بجسد المرأة. كلا الطرفين يحتقر هذا الجسد، إلا أن واحداً يريد احتقاره أن يبقى مضمراً لا يخرج للعلن، ومشرعنا ضمن منظومة قيمية، وآخر يريد استخدام احتقاره في المعارك السياسية، ويتحايل عليه بمسألة الدفاع عن حرية رسم العري. هذه الأخيرة، تستحق فعلا الدفاع عنها، لكن حين يصنعها فنانون ضمن أزمنة فيها تحولات جذرية معقدة، وكان الفن جزءاً منها.
سخر فرزات من السلطة السياسية المتمثلة بالائتلاف، لكنه وقع في فخ السلطة الاجتماعية ـ الدينية، التي تصادر أجساد النساء، وتعتبرها سلاحا في معارك السياسة
فن العري تطور بدءاً من القرنين الثالث عشر والرابع عشر، أي خلال عصر النهضة الأوروبي، وتلازم ذلك، مع تصورات فكرية جديدة حول الجسد، تجعله أكثر حسية، وتمنح صاحبه الحق بامتلاكه. بديهي، أن سلوك فرزات الذكوري، منفصل تماماً عن هذا السياق، في الدفاع عن العري في الفن، هو يدافع عن العري بمنطق مبتذل، يفصل القيمة الفنية عن تاريخيتها، ويضعها في مسار يعاكس مضمونها، العري عند فرزات هدفه سلب الجسد من المرأة، وجعله سلاحا ضد الخصوم، حتى ممارسته لرسم الكاريكاتير، لا يعني تبني فرزات قيم هذا الفن وانتماءه لمسار تطوره التاريخي، لاسيما السخرية من السلطة. فهو سخر من السلطة السياسية المتمثلة بالائتلاف، لكنه وقع في فخ السلطة الاجتماعية ـ الدينية، التي تصادر أجساد النساء، وتعتبرها سلاحا في معارك السياسة. هذا ليس تناقضا، بقدر ما هو انتماء ناقص للفن، يحيل الأخير، إلى عكس وظيفته تماما، مثلما يحصل في استخدام مسألة العري.
بلغة أوضح، الذكورية تتخفى خلف الدفاع عن الحق في رسم العري واحتقار أجساد النساء وتوظيفها في النيل من الخصوم، وتتخفى كذلك، خلف فن الكاريكاتير، الذي يستخدم كتقنية فقط، وبشكل منفصل عن هدفه المتمثل في تفكيك هيبة كل السلطات. المفارقة أن من ينتقدهم فرزات، أي أعضاء الائتلاف، يستخدمون السياسة كتقنية، وبشكل منفصل عن قيمها ومسار تطورها التاريخي، تماماً كما يفعل هو مع الفن، إذ لا أهمية للتعدد وإدارة الاختلاف وتداول السلطة، داخل مؤسسات المعارضة، السياسة فيها، صراع على المناصب، والتزام بأجندات الداعمين، وانتخابات صورية. لم تجر أي محاولة لتأسيس تقاليد سياسية وأعراف وقيم، من هنا، يمكن تفسير تلك السيولة في انتقال البعض من موالاة النظام إلى معارضته، من دون أي مراجعة تذكر، فرزات نفسه ليس بعيدا عن هذه السيولة، كما يعرف أي مدقق في تاريخه.
ثمة ما يتعدى الذكورية، في حالة فرزات، هذه مجرد نتيجة.. المسألة الأهم هي ممارسة عدد من السوريين لأدوارهم كتقنيات منقطعة عن مسار تشكلها القيمي، حتى بعض الحقوقيين، قد تجدهم في أحياناً كثيرة، يتحدثون بلغة تقتل الآخر معنوياً وتنكل به. كيف يمكن أن يبني السوري علاقة جديدة مع دوره، بحيث لا يصبح هذا الدور، أداء وتقنية لإخراج أسوأ ما فيه من ذكورية وديكتاتورية واحتقار للآخر، فينتمي كل من الفنان والسياسي والحقوقي إلى قيم وتاريخية الأدوار التي يمارسونها، تأجيل الإجابة عن هذا السؤال سيجعل الفرزاتية تترسخ أكثر، ليس في فن الكاريكاتير فقط، بل في كل مجالات الفضاء المعارض.
كاتب سوري
“القدس العربي”