قبل ظهور الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، كان الكتاب هو وسيلة التثقيف الرئيسية إلى جانب الروافد الأخرى المُتمثلة في الصحافة والإذاعة والتلفزيون، وكلها أدوات آمنة لم تذهب بعقل الفرد أو المجموع بعيداً عن هدف التحصيل والتنوير، لذا ظل الاعتماد الكلي عليها وبرز بفضلها نوابغ في الأدب والصحافة والسياسة والفن والإبداع.
وبعد أن وصلت السينما كاختراع جديد ومُبهر ساورت المخاوف من تأثيرها السلبي نسبة كبيرة من فئات الشعب، فقد اعتبرتها الأغلبية غزواً فكرياً ينال من الأخلاق والقيم ويهون من وقع التجاوزات الأخلاقية ويوجد لها مُبررات تُبيح المحظور والممنوع وما يرفضه المجتمع.
وإلى الآن لا تزال السينما محل اتهام، رغم مرور أكثر من مئة عام على اكتشافها ودخولها الدول النامية والمُجتمعات المحافظة، وغاية هذا القول إن الرأي الجمعي يبني عادة موقفة من المُستحدثات الجديدة على القاعدة الأخلاقية أولاً وأخيراً فما يتعارض معها بالكلية يرفضه رفضاً قاطعاً، وما هو جدير بالقبول يُقبل إلى أن يثبت فساده، وقد خضعت هذه القاعدة تلقائياً لفطرة الجمهور وذائقته، فلم يُملها أحد على أحد، ولم تفرضها سُلطة أو قانون، ولهذا فقد اتُفق ضمناً على تبني الجديد المُفيد ورفض الغث المقيت من ألوان الفكر والحداثة، تبعاً للفطرة الربانية السليمة.
ما يختلف عليه البعض هو ذلك المفروض بقوة التكنولوجيا، وتيار التطور المُتدفق بلا توقف والمُتمثل في ابتكارات التواصل وأشكاله عبر شبكة الإنترنت العنكبوتية، التي يختلط فيها الحابل بالنابل ولا تفرق بين الجيد والرديء، وتستمد وجودها وانتشارها من حوافز التشجيع المالية التي يحصل عليها الغاوون بعد وصولهم إلى الحد الأقصى من مُعدلات المشاهدة لمصنفاتهم المصنوعة والمدعومة بخصائص الجذب ومُشهيات الكلام والصور والحوار الخارج عن تقاليد التسويق والعرض بشروطه المُعتادة.
لقد تجاوزت وسائل التواصل الاجتماعي قواعد التمييز بين المُصنفات الفنية والإبداعية والمهنية واكتسبت أرضية جديدة بفعل الإثارة والتركيز على غرائب الأشياء وتشجيع الأنماط الدخيلة من الثقافات والأفكار، والتجرؤ على التصريح بما هو سري وما هو سري للغاية، حتى أن أفلاماً قصيرة وفيديوهات تتحدث عن ضرورة البوح ورفع الحرج عن كل شيء، وفي كل الصيغ باتت مُنتشرة بلا قيد أو رقابة، فالحرية مُطلقة والمضمون أيضاً صار مُطلقاً، ولا حدود لاعتراف امرأة أو رجل أو صغير أو كبير، فالجميع عرف الطريق ووجد ضالته في ما يبتغيه بلا مساءلة أو اعتراض، طالما أن سياج الحرية متوفر.
في بداية اكتشاف المنصات والمواقع الإلكترونية، كان النشاط مقصوراً على الفئات المُبدعة كالمفكرين والأدباء والممثلين والمخرجين والمُنتجين وكتاب السيناريو والموسيقيين، وغيرهم من أهل المهن الفنية والإبداعية، وكانت المواد المتوافرة في المنصات يختص معظمها بالمُسلسلات والأفلام والبرامج الحوارية، على اختلاف تنويعاتها السياسية والاجتماعية والرياضية والفنية. لكن بعد انتشار المنصات وكثرة الحديث عن العائد المالي من نسب المُشاهدة، والمكافآت السخية التي يمنحها اليوتيوب لمن يُحقق الأرقام القياسية، زادت المقاطع المصورة والمُسجلة، وبلغ التهافت مبلغه، وارتفعت مُعدلات المُتابعة إلى أقصى حدودها، فالكل يُريد الاستزادة من المعلومات حول أقصر الطرق لتحقيق الترند، والحصول على الثروة التي تنتظره. وفي سبيل الوصول للغاية المنشودة تم استبعاد هاجس الخوف والتخلي عن الحذر في ما يتم تصويره وترويجه، سواء كان ذلك أمراً يخصُ العلاقات الإنسانية، أو العلاقات العاطفية، أو حرية الفكر، أو حرية الفن أو ما شابه، لا يهم فحُلم الثراء أقوى من كل المخاوف والمحاذير.
حتى النميمة صار لها محل من الإعراب على السوشيال ميديا، والفتن السياسية والدينية باتت هي الخيط الذي يؤدي إلى تحقيق الغاية والجسر الذي تعبر عليه الشائعات، لتصل بسهولة إلى المواقع المعنية والمنصات الجاهزة للعرض والتحليل والنقل والتداول، فما من يوم إلا وفيه جديد ومُثير ومُختلف، ولكل حادث حديث، ولكل حادثة أبطالها ونجومها المهمين والبارزين. وكل ذلك من ضروريات اللعبة وشروطها، فلا مجال لترويج كذبة أو انتشار فضيحة، إلا بوجود أبطال مشاهير، وكلما زادت الشهرة زاد النشاط واتسعت مساحة التفاعل من جمهور العامة، فارتفعت مُعدلات الإحصاء والأرقام، وسجلت عدادات المواقع أرقاماً قياسية جديدة للزوار والمُتابعين والناشطين من مختلف الأعمار.
لقد استمر الممثل محمد رمضان فترة طويلة بطلاً على جميع المواقع الإلكترونية، وجهات الاتصال المرئية والمسموعة، وبدوره كان يغذي ذلك بالمزيد من إبداعات أفكاره الدعائية، كي يظل وحده الشخصية الأولى المُتصدرة للمشهد الإعلامي، لكن خانه الحظ وقفزت منى زكي، في دورها السينمائي المُثير للجدل، فاحتلت هي موقع الصدارة، إلى أن جاء الصحافي إبراهيم عيسى فملأت أخباره جميع النوافذ الإعلامية والمحطات والمواقع، ولكنه لم يستمر طويلاً، إذ اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية، فقفزت على السطح كأقوى الأحداث وجبت ما قبلها، واعتلت بجدارة قمة الاهتمام والمُتابعة وبقي حديث الحرب هو السائد. وهكذا دواليك تتواتر أخبار وتخبو أخرى وتبرق شخصيات وتختفي شخصيات، وتبقى المنصات والفيديوهات بمضامينها مُستمرة بلا توقف تتمدد مؤشراتها التفاعلية بحرارة المحتوى.
كاتب مصري
“القدس العربي”