بدا الرئيس الألماني فرانك شتاينماير غير متفائل للغاية، في خطابه الأخير المخصص للتضامن مع أوكرانيا. فعلى الرغم من كل العبارات العاطفية حول الدفاع عن الحرية والديمقراطية، وضّح شتاينماير لمواطنيه بكل صراحة أن الأيام المقبلة شديدة الصعوبة، سيكون هناك مزيد من القيود، والاقتصاد الألماني سيعاني كثيراً. وهو قول صعب جداً بالنسبة لبلد تعلّم، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أن «المعجزة الاقتصادية» ربما تكون الأمر الوحيد، الذي يجعل المرء سعيداً بكونه ألمانياً.
إلا أن تصريحاً لأرفع مسؤول ألماني لن يعني بالتأكيد مواطني بلده وحسب، فألمانيا قاطرة الاقتصاد الأوروبي، والركن الأساسي للاتحاد الأوروبي بأكمله، بكل قيمه وممارساته، سواء اعتُبرت إيجابية أو سلبية. وبالتالي فعندما تقول ألمانيا إن التفكير بالازدهار والرخاء لم يعد وارداً في الفترة المقبلة، يدرك جميع الأوروبيين أن مشروعهم المشترك يعاني بشدة.
الازدهار والرخاء ليسا مجرد قيمتين اقتصاديتين بالنسبة للأوروبيين، بل يمكن اعتبارهما مبدأين أخلاقيين وثقافيين، إنهما «الحق» الذي انبنى عليه الاتحاد الأوروبي. فالقارة التي لا تذكر من تاريخها في القرن الماضي سوى معارك الخنادق الطاحنة بين فرنسا وألمانيا أثناء الحرب العالمية الأولى؛ ومشاهد المدن المدمرة بعد الحرب الثانية؛ والاستقطاب حول جانبي جدار برلين في الحرب الباردة، أرادت تجاوز كل ذلك: الازدهار والرخاء يعنيان السلام، الانفتاح على الآخر؛ الحق بالتطور وتقرير المصير الفردي للجميع؛ الموقف الإنساني على مستوى كوني، الداعم لتقدم كل بلدان العالم، ولإيجاد حلول توافقية لكل المشاكل. تُنتقد المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل اليوم بسبب موقفها «المتهاون» مع أنظمة استبدادية مثل روسيا وإيران، لكنّ ما حركها لم يكن مجرد شراهة الاقتصاد الألماني لمصادر الطاقة، بل كان أيضاً قيما سلميّة، يدّعي المسؤولون الأوروبيون أنها ما دفعهم لجعل «أنشودة الفرح» نشيداً رسمياً للاتحاد، أي الحركة الختامية الشهيرة للسيمفونية التاسعة لبيتهوفن، التي تتغنى بالحرية والسلام والوحدة بين البشر.
اليوم يريد المستشار الحالي أولاف شولتس تخصيص المليارات لبناء جيش ألماني قوي، ويتشاور مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بخصوص سياسة حربية أوروبية مشتركة. بالطبع لن تكون الجيوش الأوروبية مخصصة للأعمال الإنسانية، بل لمواجهة روسيا أساساً، وربما الصين في المستقبل. ما الذي يؤول إليه الاتحاد الأوروبي إذن: خندق متقدم في الصراع الجيوستراتيجي بين «الشرق» و»الغرب»؟ إدارة بيروقراطية لحالة استثناء مستمرة، تطلب من رعيتها دائماً القبول بانخفاض مستوى حياتهم وحرياتهم لأجل «المعركة»؟
يبدو هذا بعيداً عن قيمتي الازدهار والرخاء، وربما نهاية للمشروع الأوروبي نفسه، وهو شأن لن يعني الأوروبيين لوحدهم غالباً، فما الذي سيخسره العالم إذا سقطت القيم الأوروبية؟ وكيف يمكن تأسيس الحق سياسياً وأيديولوجياً في عالم لا مثال فيه؟
زلازل أخلاقية
لا يتجاهل أشد المتفائلين بالاتحاد الأوروبي، الفرق بين القيم الأوروبية وممارسات الدول الأقوى في الاتحاد، فقد أذلّ الأوروبيون بعضهم بشدة في مناسبات عدة، لعل أهمها السلوك الألماني في الأزمة الاقتصادية اليونانية. كما أن دولاً أوروبية عدة شاركت في أعمال عسكرية، لا يمكن وصفها بالإنسانية، في أماكن مختلفة حول العالم. دعك من أن معظم تلك الدول من تجّار السلاح على المستوى الدولي. فحتى السويد، البلد شديد الليبرالية، يبيع العتاد الحربي بملايين الدولارات لدول غير ديمقراطية. إلا أن ما يسميه البعض «نفاقاً أوروبياً» لا يمكن اعتباره حجة ضد القيم نفسها، فمن الصعب الإشارة إلى مجتمع في التاريخ الإنساني عاش قيمه دون «نفاق». التوتر بين المثالي والملموس؛ ما هو كائن وما يجب أن يكون، أساس معظم الدعوات السياسية والاجتماعية عبر التاريخ، بل ربما جانبٌ محوريٌ من السعي الإنساني نفسه. قد تكون الدول الأوروبية منافقة، لكن توجد مرجعية لمحاسبتها على نفاقها، ومطالبتها بالتغير نحو الأفضل، وهذه المرجعية هي القيم التي ترفعها رسمياً، وبفضلها مثلاً أمكن للناشطين الأوروبيين الضغط لفتح الحدود للاجئين، محققين نجاحاً لا بأس به، لكن ماذا سيحدث إذا تم التراجع عن القيم نفسها؟
لم يفقد العالم إذن مثاله تماماً، فالقيم الأوروبية شكلت دافعاً لكثيرين حول العالم، خاصة في الدول العربية وأوروبا الشرقية. ومعظم التحركات المطالبة بالديمقراطية استلهمت كثيراً من النموذج الأوروبي الغربي، وهذا ربما ما دفع مفكراً يتمتع بشعبية عالمية، مثل سلافوي جيجيك، إلى التحذير من تفكيك «المركزية الأوروبية».
توجد تجربة سابقة لانهيار كيان سياسي ضخم، «منافق» بدوره، هو الاتحاد السوفييتي، الأمر الذي لم يخلّف زلزالاً جيوستراتيجياً وحسب، بل أيضاً زلزالاً أخلاقياً وثقافياً. زالت مع الدولة السوفييتية قيم كانت تعني كثيراً من البشر، ويعرّفون ذواتهم على أساسها، ربما على رأسها الإنسانية التفاؤلية: بإمكان البشر السيطرة على عالمهم، تطويع الطبيعة، الوصول إلى الفضاء والحفر عميقاً في الأرض، تأسيس نمط إنتاج عادل لا يخضع لتقلبات وأزمات غير عقلانية لا يمكن السيطرة عليها، مثل التي يشهدها السوق الرأسمالي. مع نهاية الإنسانية التفاؤلية فقد كثير من البشر طموحهم بالسيطرة، وباتوا يخشون من انتقام «الطبيعة» وأزمات السوق. لقد صاروا أكثر «تواضعاً» ينظرون إلى جانب مهم من السعي الإنساني، مثل التصنيع والتحديث وزيادة مستوى المعيشة، على أنه خطيئة تستحق العقاب. ورغم غرق الأوروبيين بشعور الخطيئة، إلا أنهم حافظوا على ما يمكن التمسّك به: منظومات رعاية اجتماعية متينة، تدخلاً للدول للحد من توحش الأسواق، دعماً لما اعتبروه «ثقافة إنسانية رفيعة» وميلاً للسلم المستدام، على الأقل في قارتهم ومع جيرانهم الأقرب، رغم انتهاكه في عدة مناسبات، كما حدث في يوغسلافيا وليبيا.. وكان مما يثير نشوة كثيرين في أوروبا حديث اليسار الأمريكي عن ضرورة أوروبة السياسات الاقتصادية والاجتماعية الأمريكية، أو اعتماد «نموذج إسكندنافي».
لم يفقد العالم إذن مثاله تماماً، فالقيم الأوروبية شكلت دافعاً لكثيرين حول العالم، خاصة في الدول العربية وأوروبا الشرقية. ومعظم التحركات المطالبة بالديمقراطية استلهمت كثيراً من النموذج الأوروبي الغربي، وهذا ربما ما دفع مفكراً يتمتع بشعبية عالمية، مثل سلافوي جيجيك، إلى التحذير من تفكيك «المركزية الأوروبية». ماذا سيبقى للعالم إذا تم النيل من قيم أوروبا؟ النموذج الروسي والصيني، أم توحش الرأسمالية الأمريكية؟
عسكرة أوروبا، وتشديد انضوائها ضمن حلف الناتو يهددان بزلزال أخلاقي جديد، لا يقل إيلاماً عن الزلزال السوفييتي. قد لا يخسر العالم هذه المرة تفاؤله وحسب، بل أيضاً مثاله الأخير لحياة أفضل نسبياً، حتى لو كانت غارقة بالذنب.
الجنة ليست هنا
كثير من الأوروبيين لم يكونوا راضين بنموذجهم، وليس الرجعيون أو اليمينيون منهم فقط، فالاتحاد الأوروبي تطلّب ما اعتبروه تضحيات كبيرة، أهمها فكرة أساسية للديمقراطية، وهي الجماعة السياسية ذات القرار. بعض أنصار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي اعتبروا «بريكست» انتصاراً إنكليزياً جديداً للديمقراطية: لا يحق لمجموعة من البيروقراطيين والتكنوقراطيين في بروكسل مصادرة الصوت السياسي للمواطنين الأوروبيين، وصياغة لوائح من الأنظمة والقرارات، تفرض نفسها بشكل مسبق على أي قرار ديمقراطي حر يمكن اتخاذه.
خسارة الجماعة السياسية ارتبطت بخسارات أخرى على المستوى الجمعي: تراجعت الجماعية النقابية لحساب فردانية العامل المرن؛ اضمحلت العائلة التقليدية لمصلحة روابط أخف، أكثر تحرراً، وتناسب ظروفاً اجتماعية ومهنية غير مستقرة؛ فيما خفت الجدل المفتوح في الحيز العام لحساب التسليم بعقلانية وتخصصية المؤسسات القائمة. وبخلاف حماس الجماعات السياسية، التي تعد دائماً بمستقبل أفضل، عاش الأوروبيون جنتهم هنا والآن، وربما بدت الحياة لكثير منهم ثقيلة دون يوتوبيا يمكن النضال لأجلها.
اليوم يُطالَب الأوروبيون بالتخندق ضمن معركة عالمية، لكن دون أن يستعيدوا شيئاً من جماعيتهم القديمة، وربما يكون هذا وضعاً غير مسبوق تاريخياً: كيف يجب أن تكون حراً ومرناً، وفي الوقت نفسه جزءاً من حشد متراص، ستتم عسكرة ظروفه المعاشية ضمن حالة استثناء دائمة؟ ربما تعجز القيم الأوروبية عن الإجابة على هذا السؤال.
عالم مغلق
قد تكون القيم، التي يتجه إليها العالم اليوم، بعيدة للغاية عن الازدهار والرخاء. تتفكك تدريجياً «السلاسل الطويلة» التي انبنى عليها انفتاح العولمة، والتي أمّنت نوعاً من الاعتماد المتبادل بين مختلف مناطق العالم. وتلجأ دول كثيرة إلى الانكفاء لحلول محلية أو إقليمية. وقد يكون هذا مستقبل الاتحاد الأوروبي: تجمع إقليمي لم يعد لديه ما يقوله للعالم.
بهذا المعنى فقد تكون حرب الليبراليين المعاصرين، الأنسب لقيمهم، ليست مواجهة روسيا أو تطوير القدرات العسكرية لأوكرانيا، بل السعي لإحلال السلام، وإعادة العلاقات والروابط حتى مع «التسلطيين». لأن عالماً متخندقاً ضمن أحلاف عسكرية ليس البيئة المثالية للنموذج القيمي الذي توصّل إليه الاتحاد الأوروبي. وربما كان «النفاق» أكثر مناسبة للحفاظ على المبادئ، فالانفتاح المؤدي للازدهار والرخاء له ثمنه، و»القبول بالآخر» قد يعني التعايش مع ممارساته، حتى لو كانت متعارضة تماماً مع القيم الأوروبية. أما الحل البديل فهو ابتكار قيم جديدة أقل قابلية للتناقض، وهو أمر غير مُفَكر به من قبل الليبراليين، وربما من قبل أي طرف أيديولوجي آخر.
كاتب سوري
“القدس العربي”