من الصعب اليوم، مقاومة العديد من أوجه البشاعة والقبح التي تحيط بنا، بمعزل عن ترسيخ ثقافة جادة وذات عمق محلي وإنساني منفتح على العالم. طلب من السياسي تشرشل، وهو في عمق المواجهة العسكرية (الحرب العالمية)، أن يخفض من ميزانية الثقافة، ويخصص ذلك للميزانية العسكرية (صنع الأسلحة، إلخ) رد بقوة، قائلا ما معناه، بل ولماذا نحن نحارب؟ هو رد، يفهم من خلاله، أن الحرب التي تشارك فيها بريطانيا العظمى، هي من أجل الدفاع عن ثقافتها. أمثلة وعبر عديدة منتشرة في ثنايا الفلسفة والسياسة والتاريخ، إلخ، مفادها أن المجتمعات الإنسانية التي يبقى لها أثر البقاء والخلود ومواجهة الصعاب والتحديات، هي تلك التي تستثمر في ثقافتها، وتحصنها، وتفكر دوما في تطويرها وتقويتها وجعلها حاضرة في كل المنعرجات التي تقطعها هذه المجتمعات.
طبعا، الإعلام البصري اليوم، واجهة حقيقية لترويج هذه الثقافة، وجعلها وبلغات عديدة، تصل للفئات كافة، بل ترخي ظلالها على بقية أنحاء العالم. فمن خلال هذا النوع من الإعلام و/أو الثقافة، من الممكن الحكم على طبيعة المجتمعات اليوم.
معركة اللغة والتربية والتعليم والتكوين والبحث وطرق التدريس، والإجابة عن أسئلة من قبيل من نحن؟ وإلى أين نريد أن نسير؟ إلخ، معارك لا بد من الخوض فيها والحسم في العديد من الاختيارات وبشجاعة وبطرق جماعية وغير منفردة، لفرض قرار أحادي الجانب.
الوثائقي في خدمة الثقافة
الصورة اليوم، لغة العصر، بل هي العصر الإعلامي و/أو الثقافي كله في زمننا هذا. من تحكم فيها ودبرها بشكل فني وجمالي وإنساني، خدم ثقافته. التلفزيون اليوم، وبقية الوسائط البصرية المتعددة، وسائل علينا توظيفها بشكل دقيق في أفق جعلها تخدم ثقافتنا. لا بد من إعادة النظر في العديد من طرق تدبير هذه الوسائط، وجعلها منفتحة على العديد مما تنهض عليه ثقافتنا المغربية، ذات التراكمات التاريخية المتعددة.
الفيلم الوثائقي، في بعده التعبيري الجمالي المعالج للواقع بطريقة خلاقة، هو اليوم حاجة تحتاجها كل الفئات العمرية. وسيلة جميلة، للتعلم وبناء الذوق والتربية على القيم الوطنية والدينية المعتدلة والإنسانية الكونية. مرآة نرى فيها وجوهنا وقصصنا ومعمارنا وطربنا وأطعمتنا وتمزقنا وألمنا وأملنا، وبصيغ فنية متعددة غير محدودة هي رهن إشارة من يكتبه ويخرجه وينتجه ويشاهده. من لا يملك قناة وثائقية اليوم، عليه أن يعيد النظر في مشهده الإعلامي و/أو الثقافي ككل، بل هي قناة لا بد منها، إن نحن فعلا أردنا أن نجعل من ثقافتنا حاضرة بصريا وعلى امتداد اليوم (ليله ونهاره). فبلدنا المغرب، له خصوصيات ثقافية عديدة. بصره، وبالقوة، مشبع بالأمكنة والقصص والوقائع والعلاقات الاجتماعية المتعددة.
يبدو، أنه من الصعب اليوم، أن نعيش في بلادنا، بصريا، دون أن نملك قناة وثائقية، من شأنها مساعدة المتفرج المغربي على أن تكون له تربية فيلمية وثائقية، آتية من محليات شعبية مغربية عديدة.
صحيح، فكل القنوات العمومية المغربية، تحضر بين الفينة والأخرى، بعض الأفلام الوثائقية التلفزيونية (السينما الوثائقية نادرة جدا فيها). لكن، ما المانع من أن نملك قناة تلفزيونية وثائقية، مختصة في الوثائقي، ولها طاقمها الإداري المسير لها. من لا قناة وثائقية له، فلا ثقافة له، لاسيما في زمن تعثر الكتاب بشكل بارز، وهيمنة التكنولوجيات المتعددة، وذات المحتوى الفارغ المؤثر سلبا في عقول الشباب والأسر ككل. زد على هذا ضعف الدراما المغربية، وقلة المناسبات التي من الممكن أن نشاهد فيها أفلاما وثائقية سينماتوغرافية. مناسبات معدودة على رأس أصابع اليد الواحدة، كالمهرجانات المهتمة بالفيلم الوثائقي (وهي قليلة جدا ومنها المهرجان الدولي للفيلم الوثائقي بخريبكة)، أو بعض المرات التي تدرج فيها بعض القنوات التلفزيونية المغربية أفلاما وثائقية، سواء تعلق الأمر بالقناة الأولى أو الرابعة أو الثانية.
للوثائقي منافع ووظائف عديدة. فمن خلاله، من الممكن أن نستمتع بموضوعات فيلمية وثائقية جميلة تغني القلب والبصر، وتجعلنا نكتشف العديد من القصص ذات الصلة بالواقع. صحيح فالمغرب، قرر على مستوى الدعم الممنوح من لدن اللجنة الوطنية للدعم السينمائي، تخصيص دعم مالي للوثائقي (هو محدود جدا)، سواء ضمن خانة الدعم المخصص للروائي، أو ضمن خانة الدعم المخصص للثقافة الحسانية الصحراوية المغربية، لكن يبقى الغلاف الكبير في قبضة السينما الروائي. لابد هنا من إعادة التفكير في طرق دعم الفيلم المغربي الوثائقي وتخصيص لجنة خاصة به، وميزانية مالية خاصة به أيضا، وهو ما سيضاف، لقناة وثائقية مغربية خاصة بهذا الجنس الفيلمي. كل هذا من شأنه، أن يولد فرص عمل مهمة ونوعية للمختصين في الفيلم الوثائقي في بلادنا، وجعل هذه القناة أيضا حاضرة في كل المهرجانات الوثائقية، من خلال جائزة خاصة بها.
يبدو، أنه من الصعب اليوم، أن نعيش في بلادنا، بصريا، دون أن نملك قناة وثائقية، من شأنها مساعدة المتفرج المغربي على أن تكون له تربية فيلمية وثائقية، آتية من محليات شعبية مغربية عديدة. نحن نعيش اليوم، تحولات مجتمعية عالمية عديدة. وحدها المجتمعات التي تهتم بثقافاتها المحلية، وتوثقها وتجعل منها مادة خصبة للحكي الفيلمي الوثائقي، بالإضافة إلى موضوعات أخرى عديدة ذات صبغة إنسانية عالمية، هي من الممكن أن تحارب كل أشكال المحو الثقافي التي تهدد كياناتنا الثقافية الداخلية.
الاستثمار في الثقافة البصرية الوثائقية اليوم، ليس بذخا كما قد يظن البعض، لاسيما البعض السياسي الذي قد يرد علينا بـ»نغمة» الأولويات، كالبنية التحتية في بعض المناطق النائية، الخ. لعمري إن امتلاك قناة وثائقية مغربية، هي أولوية الأولويات، لأن الطريق الرابطة بين دوار ودوار في منطقة نائية، من الممكن أن تبرمجها الجماعة أو العمالة أو الجهة، في رمشة عين، وتفك العزلة عن هذين الدوارين في منطقة نائية ما، لكن، برمجة قناة وثائقية مغربية مختصة، ربما تتطلب البصيرة والقرار الإعلامي الوطني الشجاع، بل هو قرار على أهل السياسة في وطننا، واللجنة البرلمانية المكلفة بالإعلام، وكل من له علاقة بالقرار الإعلامي والثقافي ككل، أن يجعل منه قضية وطنية، كقضية صحرائنا المغربية أو كقضية إصلاح تعليمنا المغربي.
كاتب مغربي
“القدس العربي”