تعمد الأنظمة المستبدة في بناء سلطتها على ثنائيّة الجوع والخوف ويختلف بعض الباحثين في العلوم النفسية والاجتماعية على أسبقية إحداهما على الأخرى في عموم حياة المجتمعات الحديثة المضطهدة ، إلا أن هناك خصوصية ظهرت في شكل أحد هذه الأنظمة، ألا وهو النظام السوري الذي اعتمد، على امتداد نصف قرن ونيّف، الموت فكرة متممة لاستمرارية وجوده، وليس استخداماً بشكل استثنائي في نزاعات محددة بين المجتمع والسلطة، كما حدث ويحدث في بعض الدول القمعية.
وفي كل لحظة من عمر السوري يتم استذكارالنقطة الأولى في تاريخ القتامة مع وصول حافظ الأسد في بداية السبعينيات. بدأت عوامل الضغط الاقتصادي على الشعب متزامنةً مع صعود حكم الطائفة الذي بنى عليها عصبية دولته العميقة ،والتي سوف يتغير شكلها لاحقاً معه ومع الوريث، ليتكون الخوف من اختلاف نمط حياة المجتمع سياسياً واجتماعياً، وهو الذي رُسم على وجه السوريين عامة.
تحولت أفواج الريفيين القادمين إلى المدينة لمجموعات منقادة، اخترقت كل أنظمة المجتمع والدولة وبخاصة مؤسسات الجيش والشرطة والتعليم الأوسع انتشاراً من غيرهم في الهيكل الوظيفي للدولة؛ هذه المجموعات أعاد إنتاجها النظام السوري من خلال حزب البعث بصفته الحاكم الشكلي للدولة، سواء ما كان منها على دفة الحكم، أو ما كان منها على شكل منظومة عادات وتقاليد اجتماعية وقبلية، فأصبحت الإيديولوجيا ثنائية القطب (السياسية – الدينية) تشكل العمق الاجتماعي للاستبداد، حيث سهلت مهمة السيطرة على هذه المجموعات التي تبحث عن العمل والارتزاق بأي ثمن، ليُستغل رخصها كأدوات سلطوية قمعية في أجهزتها الخاصة، حتى وصلت إلى مفاصل مهمة في مراكز القرار، مما تسبب في ظهور عوق اجتماعي كبير، هو ما نسميه بالنفاق الاجتماعي أو الانتهازية المستدامة.
بعدها افتتح عقد حكمه الثاني برحلة المجازر، وكان أفظعها حماة عام 1982، لتتحول سورية إلى الدولة المتوحشة تماماً، هذا الوصف يتطابق مع اسم كتاب عالم الاجتماع الفرنسي ميشيل سورا الذي دفع بسببه حياته.
وهنا حدث تحول نسقي في شكل الدولة المتوحشة إلى مملكة الصمت؛ لأنها لم تواجه من قبل المجتمع الذي شاهد المجازر، وتم اعتقال الآلاف ممن عارضوا الوضع القائم، بل بلع الخوف ليس لسانه فقط بل وقلبه و روحه، وكل يوم يزداد ضغط الحياة وقلة الدخل، وينتظر المواطنون ما قد تسرّبه لهم مخابرات النظام من أخبار عن زيادة في المعاشات، وهو ما اصطلح عليه باسم “هبات الأب القائد”.
هنا انخلق مناخ نفسي جمعي بأن أي نوع من أنواع التعبيرعن الألم، هومدعاة للاختفاء والموت، فتكونت اللامبالاة والأنانية والتسلّق في كل مناحي الحياة العامة، لتكون سمة تكتسح المجتمع.
ولعلّ أدقّ وصف ما قاله الشاعر محمد الماغوط: ” لقد أصبح البشر كصناديق البريد المقفلة متجاورين، ولكن لا أحد يعرف ما في داخل الآخر..”
هذا الحال استمر عقدين من الزمن، مع نهايتهما بدأ يظهر انحسار تدريجي في مفاصل السلطة لصالح العائلة عن الطائفة، مع استثناءات تحتاجها التوازنات الداخلية.
كانت بوادر التغيير مع الوريث بشار أوسع حلماً لدى المواطنين من ناحية انتهاء حقبة صعبة من تاريخ سورية في ظل الأب ومن يدور في فلكه، ويساعد في ذلك عوامل الانفتاح السياسي والاقتصادي، بالإضافة لقوى سياسية وتجمعات مدنية حاولت مد جسور تواصل مع الأسد و الدائرة القريبة منه، انتهت سريعاً برفض أي بوادر تغيير سياسي وخلق مناخ للحريات؛ الظاهري أن البنية الأمنية الصلبة للنظام، هي التي لا تريد الانفتاح مع استتار في الشخصية القلقة والمراوغة لبشار الأسد الرافضة للتغيير.
يسارع النظام في تلك الأثناء لخلق مدخله النفسي الاجتماعي نحو المجتمع من خلال طرح تغييرات ظاهرية وقشرية في الاقتصاد والاستثمار بزيادات وهمية في الأجور يبتلعها السوق بلحظتها، والإقراض من خلال العديد من البنوك والمجموعات القابضة التي كانت مُدارة من قبل التحالف العائلي المصغر ” آل مخلوف وماهر وبشار مع بعض رجال الأعمال”.
مع اندلاع الثورة تبدى حجم التضاد والشرخ المجتمعي بين فئات المجتمع وطوائفه كافة، طرف الثورة – طرف النظام، رغم من الإجماع على غياب الحريات والكرامة.
ليطفوا مصطلح ” كنا عايشين” بتسويق من الجهات الأمنية والأبواق الإعلامية تتلقفه النفوس الخائفة كوسيلة دفاعية هجومية ضد الآخر الذي يماثله في عيش نفس المعاناة، والساعي لتغيير هذا الواقع.
“كنا عايشيين” يرسخ الثبات النفسي” المواطن المستقر”، والذي يكون قرينه الخوف، ولم يفتر ولم يغب المصطلح، بل أصبح ساكناً في وعي ولاوعي الكثير، يُعاد تداوله في الواقع وعلى منصات التواصل الاجتماعي، ويعززه كثير من العرب الذين زاروا سورية وتلمسوا رخص الحياة المعيشية فيها قياساً بدخولهم، ولكن أي معادلة حسابية بسيطة تكشف زيف ذلك، فيظهر جلياً أن رخص الحياة حقيقة بلا كرامة لهذا المواطن.
ومع رفع النظام شعارات الانتصار على شعبه والعالم بأجمعه؛ يتكشف وجه المأساة أكثر، فمن الموت في السجون إلى الموت على الأرصفة في شوارع المدن، أو في مخيمات متناثرة بحثاً عن لقمة في قمامة أو استجداء عطاء.
فيخفت أي صوت يطالب بتغيير هذا الحال، حتى لو كانت بصيغة “ثورة جياع “، ولا يُخلق له أي حسّ تضامني، أو قدرة فعلية للنزول إلى الشارع، وقد يُقدِم أي شخص على الانتحار، ولا يُقدم على المواجهة كالخروج في مظاهرة أو الاحتجاج .
غير أن الذاكرة الجمعية تحتفظ بمقارنة صامتة، هي الوقوف على أبواب المؤسسات الاستهلاكية في ثمانينات القرن المنصرم، لتعاد الحالة مع البطاقة الذكية بفارق تقني بسيط.
المرعب اليوم، أن السقف أصبح أكثر انخفاضاً، فأي وصف لغلاء الأسعار وتحكم تجار الحرب يعتبر جرماً قانونياً، ينال من هيبة الدولة بمرسوم من الرئيس صاحب شعار ” الأمل بالعمل”.
فالعمل الوحيد المجدي في “سورية الأسد”، هو صناعة حبوب الكبتاغون المخدرة التي وصل دخلها لخمسة مليارات دولار حسب معهد نيولاينز للأبحاث في واشنطن بإشراف مباشر من رأس النظام، محاولاً إيصالها بأي طريقة لدول الإقليم مكافئة له على تعويمه.
الحقيقة التي تغيب عنا أن الخوف متبادل بين السلطة المستبدة والمجتمع، وضعفه وقوته محكومٌ بقرار إرادتنا؛ إذا استطعنا التغلب على فكرة “إن الناس في ذل خوفاً من الذل ” هنا نستطيع كسر ثلاثية الاستبداد الأسديّ.
- كاتب وصحفي سوري