تثير رغبة كل من السويد وفنلندا بالانضمام لحلف الناتو عدداً من الأسئلة، التي تتجاوز التداعيات السياسية والاستراتيجية المباشرة لهذه الخطوة، لتصل إلى طبيعة التفكير «التقدمي» في عصرنا، إذ لا يوجد مثال لليسار الليبرالي أفضل من حكومتي هذين البلدين الإسكندنافيين: أحزاب ديمقراطية اجتماعية في السلطة، أوصلت امرأتين، لهما سمت تقدمي واضح، إلى سدة الحكم، وسط منظومة تشريعية وإعلامية وثقافية معنية بكل أشكال «التمكين». عندما يتكلم اليسار المعاصر، وخاصة الأمريكي، عن «نموذج إسكندنافي» فهو يعني أساساً السويد وفنلندا، وليس النرويج والدنمارك بميلهما القومي واليميني.
واليوم يبدو أن هذه التقدمية الفائقة لن تكتمل وتحمي نفسها إلا بالانضمام لحلف الناتو، فهل بات الانضواء ضمن أحلاف عسكرية مدججة بالسلاح النووي الخيار الأمثل لليسار الليبرالي، وثقافته المشغولة دوماً بتفكيك التهميش الناتج عن المركزية الغربية والذكورية؟
يزداد الأمر خطورة لدى رصد التطورات الأخيرة للحرب الأوكرانية، فالإعلام الروسي يتحدث عن «بداية حرب عالمية ثالثة» ويحذّر من «نتائج وخيمة» لتوسيع الناتو ليصل إلى الجارين الإسكندنافيين. هل سيصبح التقدميون إذن شرارة حرب عالمية مدمرة؟ والأهم هل في التفكير الليبرالي اليساري المعاصر ما يؤهله ليصبح ثقافة وأيديولوجيا للحرب الكونية؟
قد لا يبدو موقف هذا النوع من اليسار مفاجئاً أو غير مسبوق تاريخياً، في الحرب العالمية الأولى اتخذت أحزاب الديمقراطية الاجتماعية، المنضوية آنذاك في الأممية الثانية، موقفاً مؤيداً للحرب، وبحجج مشابهة للحجج الحالية. في ألمانيا تحدث قادة اشتراكيون عن خوفهم من تسلطية القيصر الروسي، وقدرته على تدمير حريات الطبقة العاملة ونقاباتها في حال تقدمه في أوروبا، بل إن ممثلين عن الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني صوتوا لتخصيص خمسة مليارات مارك لدعم المجهود الحربي. اليوم يرصد المستشار الألماني الديمقراطي الاجتماعي أولاف شولتس مئة مليار يورو لبناء جيش ألماني، في إطار المواجهة المفتوحة مع روسيا. في فرنسا كان الحال مشابهاً، فقد رأى الديمقراطيون الاجتماعيون هناك تهديداً كبيراً لحرياتهم في أطماع القيصر الألماني، فانضم كثير منهم إلى معسكر الحرب ضد الألمان، التي أزهقت مئات آلاف الأرواح. من الجدير بالملاحظة أن اليسار حينها تورّط في تلك المواقف، رغم أنه كان ذا نزعة اجتماعية وطبقية بمعنى الكلمة، فكيف سيكون حاله اليوم بعد أن غدا «ليبرالياً» تماماً.
كُتب كثير من الدراسات التاريخية في ما بعد، في محاولة لفهم وتفسير موقف اليساريين آنذاك. ومع أنه لم يئن بعد أوان التحليل التاريخي لنزعة «التقدميين» اليوم نحو الناتو، من الممكن طرح بعض الأسئلة: كيف ولماذا يصبح موقف أيديولوجي قائم على التسامح، كما هو مفترض، استقطابياً لهذه الدرجة؟ وهل لم يعد هنالك موضع لنزعة سلمية في الثقافة «التقدمية» المعاصرة؟
الطليعة المحافظة
ما يميز كثير من أنصار النزعة «التقدمية» اليوم عن الديمقراطيين الاجتماعيين في الحرب العالمية الأولى، أن موقفهم لا يبدو مجرد اتباع لقرار جهات سياسية محافظة بدعم الحرب، بل هم غالباً في طليعة المطالبين بموقف متشدد تجاه روسيا، بما يشمل الدعم العسكري لأوكرانيا أياً كان الثمن، الحصار الاقتصادي الشامل لموسكو، وتصليب حلف الناتو لمواجهة الخطر الروسي. في الولايات المتحدة يتسم موقف الرئيس بايدن، المجامل لـ»التقدميين» بشدة، سواء في مشروع «الصفقة الخضراء الجديدة» أو في تمكين فئات «مهمشة» في مختلف مؤسسات السلطة، بالعداء الواضح للقيادة الروسية، على خلاف سلفه الشعبوي ترامب، المتهم بمحاباة الروس. قد يكون السبب مفهوماً: تدعم روسيا مجموعة من الحركات الشعبوية في الدول الغربية، تهدد مكاسب مهمة، انتزعها التقدميون في السنوات الأخيرة. بالأصح تمثّل التسلطية الروسية الكابوس الذي يخشاه الآلاف ممن حصلوا أخيراً على نوع من الاعتراف ضمن المؤسسات القائمة: نساء وملونين ومثليين وأبناء أقليات، وشبابا بيضا يختلفون عن «الرجال البيض العجائز» يعيشون في المدن الكبرى على الأغلب، يشعرون بقلق دائم على نمط حياتهم المتسامح. ويتمنون في الوقت نفسه أن يسود وينتشر.
وعلى الرغم من التضخم والأزمة الغذائية، التي بدأت الفئات الأفقر تدفع ثمنها حول العالم، بما فيه الدول الغربية، لا يبدو نمط الحياة «التقدمي» قابلا للاهتزاز، ليس لأن التقدميين من سكان المدن الكبرى لا يتأثرون بانخفاض قدرتهم الشرائية وفقدان عدد من المواد الأساسية، بل لأن نمط حياتهم لا يتحدد فقط بالأوضاع المالية وأنماط الاستهلاك المادي، بل أيضاً بما يمكن تسميته مجازاً الاستهلاك اللامادي.
يمكن تعريف «التقدمية» اليوم بأنها أيديولوجيا عن الذاتية، تقوم على اعتبار الذات الفردية نمطاً من الملكية الخاصة، التي يجب أن تكون قابلة للتسويق والتداول والاستهلاك بحرية، ودون أي تشويش أو عوائق من بنى اجتماعية أو ثقافية مستقرة، وربما قد يكون هذا سبب استرسالها في الحديث عن الأذى والعدوان المصغّر اللذين تتعرض لهما الذوات الفردية في كل مكان. من الصعب وجود هذا النمط من الذاتية خارج المدن الكبرى، التي كانت دوماً الموطن المفضّل لاستثمار الفوائض الرأسمالية: عمليات التطوير الحضري، وخصخصة المساحات العامة، والانفتاح أمام رؤوس الأموال والعمالة الأجنبية، سواء الرخيصة، المهاجرة غالباً بشكل غير شرعي، أو المتخصصة، جعلت المدن بالفعل أكثر «تنوعاً». بهذا المعنى فقد لا يكون من الظالم القول إن «التقدمية» هي أيديولوجيا الرأسمالية المعاصرة. أو بعبارة أخرى، أكثر تعقيداً، نمط الذات في الشرط الرأسمالي المتأخر.
يجعل هذا من الفئات «التقدمية» سواء كانت من «البيض» أو أبناء الأقليات، محافظة بالضرورة، فوجودها الذاتي الهش، المعاد توطينه على عجل في مدن لا ترحم، مهدد دوماً من خطر خارجي: ما تبقى من المجتمعات الأهلية المحافظة، الطبقة العاملة البيضاء الرجعية، الأنظمة التسلطية الخارجية، المتهمة بدعم أعدائها الأيديولوجيين الكثر، ولذلك فإن معاركها غالباً ما تكون للحفاظ على الوضع القائم، وليس تغييره.
لم تقم النزعة السلمية في ما مضى على إنكار دوافع العنف في المجتمعات الإنسانية، بل على محاولة التمييز الجدلي بين الحروب العادلة وغير العادلة، عن طريق طرح سؤال إشكالي: ما الحرب التي يمكن عبر خوضها الوصول إلى السلام للجميع؟
الإخلاص اليساري
قد لا يكون اليسار الليبرالي يخون طبقته اليوم بتأييده للحرب، كما اتُهم الديمقراطيون الاجتماعيون في ما مضى، بل الأكثر إخلاصاً لفئات اجتماعية مشتتة، تشكل قاعدته الانتخابية الأساسية.
إلا أن هذه الفئات ليست طبقة، بالمعنى السياسي للمفهوم، لأن نمط الذاتية المفردن أساسي في تكوينها، ما يجعلها تعجز عن الفعل الاجتماعي المستقل، وتعتمد دوماً على مؤسسات منظمة بشكل هرمي وغير ديمقراطي: المؤسسات الثقافية والإعلامية للتيار الرئيسي، المنظمات غير الحكومية، الأجهزة البيروقراطية والتكنوقراطية للدولة. وعندما تريد أن تخوض حرباً، تراها عادلة، فليس من الغريب أن تلجأ إلى تأييد تجمع عسكري قائم، يصعب الحديث عن تاريخ مشرّف له، مثل الناتو.
أدرك الديمقراطيون الاجتماعيون والشيوعيون، في حقبة الحرب العالمية الأولى، أن عماد الجيوش المتحاربة سيكون الطبقة العاملة، ولذلك بنوا مواقفهم، سواء كانت مؤيدة للحرب أو مناهضة لها، على أساس الموقف المستقل الذي يمكن أن تتخذه تلك الطبقة. اليوم لا إمكانية للاستقلال عما تقرره القوى الفائقة، التي قد ترى في هذه الحرب مصلحة لها، سواء كانت حكومات أو شركات. فالسؤال الذي ربما يكون مطروحاً على الذات الفردية الهشة، العاجزة عن الفعل الاجتماعي: ما البديل عن هذه القوى، القادرة وحدها على حماية حرياتك المهددة؟ قد يكون الناتو، رغم كل مركزيته الغربية وعدوانيته، هو الحل.
السلام المستحيل
لم تقم النزعة السلمية في ما مضى على إنكار دوافع العنف في المجتمعات الإنسانية، بل على محاولة التمييز الجدلي بين الحروب العادلة وغير العادلة، عن طريق طرح سؤال إشكالي: ما الحرب التي يمكن عبر خوضها الوصول إلى السلام للجميع؟
جواب البلاشفة وأنصارهم من الشيوعيين الأوربيين في الحرب العالمية الأولى كان الحرب الأهلية، أي أن توجه الطبقة العاملة سلاحها ضد حكوماتها لإيقاف الحرب العبثية، وإقامة أنظمة أكثر عدلاً. أما في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية فقد كان الجواب هو دعم حركات التحرر الوطني، لتفكيك بقايا الإمبراطوريات الاستعمارية، ومواجهة الإمبريالية، التي اعتبرت مولّدة للحروب، مع الحذر من الانزلاق لحرب نووية مدمرة للحضارة الإنسانية.
يبدو التوصّل لنزعة سلمية من هذا الطراز شديد الصعوبة في أيامنا، إذ لا يوجد هدف أبعد من الحفاظ على وضع قائم، تساهم تناقضاته بتصعيد النزاعات العسكرية، والأزمات الاقتصادية والغذائية، والتهديد النووي؛ كما لا توجد قوى اجتماعية مستقلة قادرة على خوض حروب السلام الخاصة بها.
قد لا تكون الدعوة للسلام تخلياً عن الشعب الأوكراني، كما أن الإصرار على تصعيد المواجهة ليس أفصل نصير لقيم التنوّع والتسامح، فهذا العالم يصبح أكثر فقراً وانغلاقاً وتعصباً، ولذلك فإن رهان «التقدميين» على مؤسسات مثل الاستخبارات الأمريكية والبريطانية؛ جيش شولتس المزمع بناؤه؛ توسيع الناتو وصولاً إلى جيران روسيا الليبراليين، قد يخيّب آمالهم مستقبلاً.
كاتب سوري
“القدس العربي”