اليوم، وقد مضى على اندلاع “الحرب الأوكرانية”، التي أطلق عليها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، تعبير “العملية العسكرية الخاصة”، تسعة أسابيع، يكون قد أصبح بالإمكان تسجيل عدد من الملاحظات والانطباعات، وصولاً الى تسجيل عدد من التوقّعات لما قد تصله هذه المواجهات من محطّات، وما قد تنتهي إليه؛ وانعكاسات كل ذلك على العالم العربي، بشكل عام، وعلى فلسطين وإسرائيل بشكل خاص.
أولى الملاحظات الجديرة بالتسجيل هي أن هذه “الحرب”، في شكلها: اجتياح عسكري روسي لمناطق واسعة من شرق وجنوب أوكرانيا، ولكنها، في جوهرها: مواجهة مباشرة بين روسيا الاتحادية والولايات/الدول المتحدة الأمريكية. فهي، كعملية اجتياح عسكري روسي لأراضي دولة مجاورة، مرفوضة ومُدانة من قِبل غالبية دول وشعوب العالم، (141 دولة عضو في الأمم المتحدة صوتت تأييداً للإدانة)؛ ولكنها كعملية سياسية تهدف الى إنهاء نظام عالمي مجحف، تتربع أمريكا، منفردة، على قمّتة، لقيت تأييداً واضحاً، وتأييداً صامتاً، ( يتخفّى تحت غطاء الحيادية)، من جانب غالبية دول العالم الكبيرة: الصين (مليار و416 مليون نسمة)، والهند (مليار و393 مليون نسمة)، وهما وحدهما تشكّلان أكثر قليلاً من ثلث سكان العالم، يضاف لهما بطبيعة الحال شعوب غالبية دول آسيا وإفريقيا (ومنها شعوب ودول العالم العربي) وأمريكا اللاتينية، حيث أربعة منها، (الصين والهند وباكستان وكوريا الشمالية)، تستند الى جدار قوي من السلاح النّووي، إضافة الى خامسة (إيران) المتمترسة بقوة عند “حافة” الجدار النّووي.
الملاحظة الثانية الجديرة بالتسجيل هي الخطأ الذي وقع فيه الرئيس الأمريكي، جو بايدن، بإشهاره “سيف” العقوبات الاقتصادية على روسيا فور اندلاع “حرب أوكرانيا”. وهو خطأ استراتيجي من الدّرجة الأولى، حيث:
أوّلاً ـ روسيا ليست مثل فنزويلا أو كوبا أو كوريا الشمالية، التي يمكن لعقوبات اقتصادية التأثير السلبي عليها. ولم يتعلّم الرئيس بايدن وإدارته من تجربة فشل العقوبات الاقتصادية في تركيع إيران وكسر إرادتها. وروسيا، بمساحتها: 17 مليون كيلومتر مربع غير قابلة للحصار، وبتعداد سكان: 150 مليون نسمة تقريباً، 80% منهم من القومية الروسية، ويتوزع الـ20% الباقين على أكثر من عشر قوميات مختلفة، اكبرها التتار (3.8%) والأوكران (2%)؛ وبموارد طبيعية هائلة: ثاني أكبر مصدّر للبترول في العالم، (بعد السعودية)، وأوّل أكبر مصدّر للغاز في العالم؛ ومن أكبر منتجي الحبوب والغذاء في العالم؛ والبلد المطل والأقوى على القطب الشمالي للكرة الأرضية البالغ الثراء بالمعادن الثمينة والنادرة؛ وصاحب أكبر ترسانة نووية في العالم، والمنتج والمالك لكافة أنواع الأسلحة الهجومية والدفاعية الأكثر تطوّراً في العالم. بلد بمثل هذه الميزات العديدة والمتنوعة، لا يمكن ابتزازه بعقوبات اقتصادية، حيث تملك روسيا “التراكتور” للانتاج وضمان الأمن الغذائي لشعبها، وتملك “الدبّابة” لحماية التراكتور، كما كتب و”صوّر” ذلك البروفيسور الكيني الراحل، علي الأمين مازروي، (الذي يعود في أصله الى قبيلة المزروعي العُمانيّة الظّبيانية)، في كتابه “دور الثقافة في السياسة الدولية”.
ثانياً ـ روسيا، كدولة، لم تتضرّر إطلاقا من “العقوبات الاقتصادية”. بل ما هو أهم من ذلك بكثير، أنها المستفيد الأكبر من هذه “العقوبات”: كان سعر الدولار الأمريكي، مع بداية أحداث أوكرانيا بحدود 130 روبلا روسيا، انخفض سعره لأيام قليلة فقط من بدء مسلسل العقوبات، ليصل الى 150 روبلا تقريباً للدولار، ولكنه استعاد قوته بسرعة ملفتة، وبدأ بزيادة قوته أكثر وأكثر، الى أن ضاعف قيمته، وأصبح سعر الدولار ليوم أمس، الأربعاء، 74 روبلا روسيا فقط.
ثالثاً ـ المتضرّرون الأكبر من خطأ بايدن وإدارته، هم حلفاؤه في الاتحاد الأوروبي، والمواطنون الأمريكيون أيضاً.
رابعاً ـ أخطأ الرئيس بايدن في اعتقاده أن المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتّحدة، ستستجيبان لطلبه بزيادة إنتاج البترول والغاز، لحرمان روسيا من ارتفاع أسعار الطاقة في العالم، مع كل ما يعنيه ذلك. ويذكّر موقف السعودية الحالي، بموقف الملك والزعيم السعودي الراحل، فيصل بن عبد العزيز، خلال حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، والذي اغتاله الأمير فيصل بن مساعد بن عبد العزيز، بعد أقل من سنة ونصف السنة على وقفته الشجاعة تلك، بتحريض من أميركا وبريطانيا، حسب ما ذكرته مصادر عديدة في حينه.
هذه “الحرب” في شكلها: اجتياح عسكري روسي لمناطق واسعة من شرق وجنوب أوكرانيا، ولكنها، في جوهرها: مواجهة مباشرة بين روسيا الاتحادية والولايات المتحدة الأمريكية
خامساً ـ انتشرت على نطاق واسع، عبارة “انه الاقتصاد “، التي صكّها جيمس كارفيل، المستشار الإستراتيجي لحملة انتخاب الرئيس الأمريكي الأسبق، بيل كلينتون، والموجهة الى الرئيس السابق له، جورج بوش الأب، سنة 1992، وهي العبارة التي يقول كثيرون أنها كانت سبباً رئيسياً في هزيمة بوش. ولعله من المنطقي البحث عن مستشار استراتيجي، يصكّ عبارة موجّهة الى الرئيس بايدن تقول له “إنه ليس الاقتصاد”، وأن العقوبات الاقتصادية ليست مجدية في التعامل في الظروف الحالية مع روسيا، و”إنها قوّة وقدرات روسيا في الدفاع عن أمنها ومصالحها ومستقبلها “.
ثمّ، في أي اتجاه تسير الأمور والتطورات؟
هذه “الحرب العالمية الرابعة”، (بعد الحربين العالميتين العسكريتين، الأولى والثانية، لحقتهما “الحرب العالمية الثالثة” المعروفة تحت اسم “الحرب الباردة”)، هي “حرب عالمية هجين”: في شكلها الأول، وغير الأساسي، هي “حرب عسكرية على أرض أوكرانيا” فقط، أمّا في جوهرها الأساسي، فهي “حرب عالمية باردة”، ستترك آثاراً حاسمة، على مجمل دول وشعوب العالم، وتشكّل “نظاماً عالمياً جديداً” متعدّد الأقطاب، وليس “عالم القطبين”، (مع دور ما لـ”عدم الإنحياز” كما نعرف)، بل متعدّد الأقطاب، بما يفوق عدد الثلاثة الكبار: الصين والولايات المتحدة والاتحاد الروسي، ليشمل تمثيلاً أوسع: للقارة الآسيوية، (الهند وباكستان واليابان وربما اندونيسيا)، وللقارة الإفريقية، (جنوب إفريقيا ومصر ، في حال نجحت في اعادة موقعها قاعدة صلبة ومستقرة للعالم العربي، وربما نيجيريا ذات الـ220 مليون نسمة)، وكذلك لقارّة أمريكا اللاتينية، (البرازيل والمكسيك).
في واحد من أبرز وجوه هذه “الحرب العالمية الرابعة”، هي حرب طائفيّة/دينيّة، شكّلت امتداداً، (أو ربما إعادة إيقاذ للأطراف الفاعلة في المعركة الأخيرة في “الحرب الباردة”)، التي حسمت تلك الحرب بهزيمة مدوّية للإتحاد السوفياتي قبل ثلاثة عقود، حيث تحالفت البروتستانتية والكاثوليكية في أمريكا وأوروبا الغربية، (عندما كان بابا الفاتيكان، يوحنا بطرس الثاني، البولندي الأصل، وكان زبيغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأمريكي، وهو أيضاً بولندي الأصل، ونجحا في إثارة عمال الموانئ في بولندا الكاثوليكية للتمرد على الإتحاد السوفياتي.. وبقية قصة التطورات معروفة).
الصورة الآن مختلفة. الحلف “الحقيقي” في مواجهة روسيا حالياً هو حلف أنكلو ساكسوني بروتستانتي صرف، (الولايات المتحدة وبريطانيا، ومعهما أستراليا)، نجح، حتى الآن، في جر دول أوروبا الكاثوليكية الرئيسية: فرنسا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال، (ومعها ألمانيا الى حد بعيد)، لأخذ مواقف تساير وتتماشى مع إرادة وقرارات أمريكا وبريطانيا، رغم تضررها الكبير والواضح من هذه السياسة.
يوم الأحد الماضي، حُسم أمر الانتخابات في فرنسا، (الدولة الكاثوليكية الأهم)، لصالح الرئيس إيمانويل ماكرون، وهو الذي “لدغت” الإدارة الأمريكية فرنسا في عهده، في موضوع صفقة الغواصات مع أستراليا. لن يكون مفاجئاً أن يعيد الرئيس الفرنسي، وقد ارتاح من معركة الإنتخابات، حساباته، وموقف فرنسا المتضررة جداً من مواجهة روسيا، وربما ألمانيا معه، من كل ما جرجرته اليه قيادة الحلف الأنكلو ساكسوني.
كل زحزحة للولايات المتحدة عن الإنفراد على رأس الهرم العالمي، هي خسارة لإسرائيل، وتعطي الشعب الفلسطيني، (ولا أقول “قيادته الشرعية”، ولا قادة الإنقلاب في قطاع غزة)، فسحة لالتقاط الأنفاس، وفرصة لإعادة تصويب البوصلة الفلسطينية، وتنشيط النضال الفلسطيني بكل أشكاله.
٭ كاتب فلسطيني
“القدس العربي”