في حلب مثلما يعيش الناس حياة يتحكم في تفاصيلها الحنين للماضي فقد صار يتآكلهم أيضا شبح الحنين للمستقبل المهدور.
يدور دائما حديث متواتر عن عيوب الرأسمالية ومشكلات الليبيرالية وانحدار الحداثة، هذا مقبول في دولة حديثة واقتصاد رأسمالي. أما في حلب حيث أقيم فالحديث يأخذ مسربا آخر مختلفا تماما، فالاقتصاد يقوم على تجريم التعامل بالدولار بينما تسود “عبادة الدولار” في بقية العالم ولا يمكن الحديث عن أي تسمية معبرة عن النظام الاقتصادي فلا هو اقتصاد سوق رأسمالي ولا هو اقتصاد اشتراكي ولا شيوعي. نستطيع أن نطلق عليه بشكل مؤقت “اقتصاد دولة الحاجز”، بضعة براميل في منتصف الطريق ومحرس صغير في الزاوية مع عدة جنود مسلحين وظيفتهم الأساسية فرض الضرائب وتقاضيها والسماح والمنع للبضائع بالمرور. بما يشبه نظام المكوس السائد في القرون الوسطى.
الحاجز يدير النزاعات في الحارة ويتقبل الشكاوى وينظم العلاقات بين السكان والحاجز يشتبه بالمارين ويسمح لهم بالعبور ويلقي النكات وعليك أن تضحك.
في العالم خارج حلب تزداد ثروة جيف بيزوس بمعدل 275 مليون دولارا في اليوم، وهذا مرعب في الواقع ومثير للخوف لذلك تزدهر صناعة الأمن والشرطة والملاجئ النووية دون أن تتأثر بحمى سلاسل التوريد ولا بإغلاقات كورونا المتكررة. في حلب أيضا تنمو شركات الأمن الخاصة ويتراكض الشباب لامتلاك هوية أمنية تابعة لها. هوية حماية ومصدر قوة دون انعكاس فعلي على الأرض فسرقة السيارات مثلا صارت حدثا يوميا اعتياديا أيضا.
في العام خارج حلب تزدهر أسعار النفط بسبب غزو أوكرانيا وفي حلب أيضا لا تفوتنا هذه الفرصة فأباطرة تهريب النفط يتلاعبون بالسعر بشكل لا يقل براعة عن مستثمري “خام برنت” ويستطيعون تعطيش السوق ورفع السعر بشكل دوري. هذا أيضا من بركات اقتصاد الحواجز.
في حلب لم تكن تعمل إشارات المرور أغلب الوقت لانقطاع الكهرباء لكن القناص كان جاهزا ليقتل عن بعد بكل أريحية
في عالمنا يكتب الجميع اليوم عن تغير كبير في الطريق فقد بتنا على حافة الهاوية حرفيا وهذا للمفارقة يدفعنا ويدفع “النظام العالمي” للتمسك بنا وبحضورنا بشكل أكبر، في حلب هذا ما يحدث نحن في قعر الهاوية تماما ونتمسك بالحواف خائفين من قعر آخر ينتظرنا.
قبل عدة سنوات طبعت حكومة السويد كتيبا صغيرا وأرسلته لجميع الأسر السويدية “في حالة الحرب أو الكوارث” هذا عنوان الكتيب الذي يتحدث حرفيا عن هجوم نووي وفناء العالم، لكن المفارقة أن السويد لم تُهاجم منذ أكثر من مئتي عام.
هذا نمط من المسّ الجماعي ربما وهذا بالتحديد ما نعيشه في حلب لكن على المستوى الفردي والمستوى الشامل. البيوتُ المدمرة والضحايا الذين سكنوها والأرواحُ التي ابتعدت وهاجرت واستوطنت المنافي. حين أراقب طريقة مشي الناس في شوارع حلب أعرف أن المسّ الجماعي وصل إلينا أخيرا دون أن توزع الحكومة كتيبات تحذيرية. يقطع المشاة الشارع وكأنهم يتمشون في ممراتهم الخاصة، لا يهم عبور السيارات ولا سرعتها ولا لون الإشارة. المهم أننا نعبر الطريق.
يصح طرح السؤال الفلسفي الساخر لماذا عبرت الدجاجة الطريق لكن بتعديله ليصير كيف يعبر الحلبي الطريق؟
في كتابه الشهير “أشباح ماركس” يؤكد دريدا أن الرأسمالية بدفنها للاتحاد السوفييتي استدعت حكما أشباح ماركس وأفكاره وأن سيطرة الشركات الكبرى ودفنها لمطالب الطبقة العاملة عجلت بظهور هذا الشبح. ربما بالغ دريدا ولكن في حلب الأشباح موجودة بكل تأكيد، أشباح البرغل والزيت والغلاء حتى قبل غزو أوكرانيا بكثير. الجوع هنا ليس مزحة وليس تحذيرا مستقبليا، الجوع صار واقعا لحظيا في حلب. يحتاج الموظف ليعيش بالحد الأدنى إلى 500 دولار في الشهر لكنه يتقاضى 25 دولارا فقط، الفارق بين الرقمين أكلته أشباح حلب.
المستقبل الجميل الذي لم يحدث ينشر أشباحه أيضا فالأطفال المتسولون الذين يستعطفونك على الإشارات كانت لهم حياة مختلفة قرضتها الفئران، ومثلما نعيش الحنين للماضي صار يتآكلنا شبح الحنين للمستقبل المهدور.
في فيلم وثائقي بعنوان “روبوتات قاتلة” (slughterbots) عن السيطرة المنتظرة للذكاء الاصطناعي على مختلف تنويعات حياتنا يقوم درون صغير بحجم الكف بمطاردة الناس المتراكضين وقنصهم واحدا تلو الآخر، ليظهر في نهاية المقطع وجه باسم لأحد منتجي السلاح قائلا “لا يجب عليكم القلق، إنهم الأشرار”. كما حصل في العراق سوريا أفغانستان، “لا يعدو الأمر أن تدهس نملا بقدمك دون تفكر في ما فعلت مرتين”، هذا ما قاله قائد سابق عن القتل عن بعد.
في حلب لم تكن تعمل إشارات المرور أغلب الوقت لانقطاع الكهرباء لكن القناص كان جاهزا ليقتل عن بعد بكل أريحية.
بعد الحرب الكونية الثانية سيطرت فكرة “الحق الطبيعي” بالازدهار والتطور ورخاء المواطنين لتصير أوروبا مثالا لتحقق هذه القيم في العموم، ورغم بعض الانتقادات المحقة فالنموذج الغربي كان مصدرا للتفاؤل بمؤسساته العلمية ومنظومته الاجتماعية. لكن في حلب يختلف مفهوم “الحق الطبيعي” تماما، هنا يمتزج الكلام عن الحق الطبيعي المثالي بالنفاق الملموس.
يمكننا الكلام دائما عن تحسين الزراعة وإنتاج الأرض كحق طبيعي للفلاح ولكن النفاق يقطع عنه الأسمدة والمحروقات. ومن الممكن بالطبع اجتراح نقدنا الخاص للغرب والحداثة لكننا فعليا بحاجة ماسة لنندمج أكثر بهذه “الواقعة الكونية المسيطرة” دون أوهام المقاومة والتملص من الحياة الفعلية كما يعيشها بقية العالم. مستقبلنا الإيجابي ليس سوى توسع واستثمار في حقوق الآخرين الطبيعية بدلا من التنمر الزائف والتبول على جدران الحداثة.
لكن ما نقوم به في حلب لا يتجاوز التعبئة اللفظية العامة، سنقاوم سنقاتل سنوفر سنعيش سنهزم سنفعل سنترك، سيكون لنا شعبنا الخاص السيد المدلل المنسجم بينما نترك للبقية الازدحام على الأفران فجرا.
“أنا جيد جدا في قتل الناس بالدرونات” نستطيع نسب هذه العبارة لأمير حرب شهير أومغمور لمهندس يراقب شاشته وهو يحرك المسيرات عن بعد، لكنها في الواقع للرئيس أوباما الفائز بنوبل للسلام. مرة أخرى نقابل النفاق الطبيعي ونقارن، السياسة هي أن تسير البلد كما يسير أوباما الدرونات القاتلة.
الآن ماذا نفعل. نختار التفاؤل، علينا أن نستبشر فالواقع ليس شديد السوء كما نعتقد. أو نستطيع زرع المزيد من التقوقع وسيطرة السرديات الوطنية المحدودة، سوريا الطبيعية كقومية مستقلة، السعودية أولا ولا عرب إلا في جزيرة العرب، تونس الأكثر علمنة، وبينما نروج لهذه الخطابات لا مانع من المزيد من اقتناص الفرص حتى يحدث الانهيار الكبير.
“صحيفة العرب”