تثير مشاهد التعذيب والانتهاكات الواردة من سوريا كثيراً من الصدمة والرعب، ويبدو أن هنالك في أهوال ذلك البلد ما هو قادر دوماً على مفاجئة المتابعين، رغم كثرة الشهادات والمرويات المتراكمة عن فظاعة ممارسات النظام السوري منذ نشأته في سبعينيات القرن الماضي، ما يجعل من الممكن الحديث عن خصوصية ما للعنف السوري، ليست نابعة من حجمه أو المدى الذي قد يصل إليه، فقد شهد التاريخ الإنساني، في كل عصوره، ممارسات عنفية أضخم بكثير مما تعرفه سوريا، ومزقت السلطات دوماً أجساد معارضيها وأعدائها بأشنع الطرق، إلا أن خصوصية العنف السوري تأتي من طبيعته الكابوسية، العصية على الفهم والتفسير المباشر، وتحديد الغايات والوظائف والمرجعيات المرتبطة به، وكأن جلادي النظام يكتفون بتحقيق أسوأ ما في لاوعيهم، وأشد ما في كوابيس ضحاياهم رعباً، دون غاية عملية أو عقائدية واضحة.
نحن هنا أمام عنف وظيفي إلى حد ما، بمعنى أنه فعل هادف إلى ضمان بقاء واستمرار نظام سياسي ومؤسساته، ولكن من المتعذر فهم الفائدة الوظيفية المباشرة لكل هذا الاستفزاز العلني، الذي يبدو مجانياً، لمشاعر ذوي الضحايا والمتعاطفين معهم. يمكن أيضاً اعتباره عنفاً طائفياً ومناطقياً، ولكن يصعب تحديد منطقة سورية تعرّضت لعملية تطهير، أو إبادة جماعية منظّمة، كما أن النظام ما يزال مستنداً إلى قاعدة سكانية متنوّعة طائفياً من الموالين. هو عنف بيروقراطي، يوثّق ويؤرشف ضحاياه بأرقام وصور وتسجيلات، ولكنه يترك مجالاً واسعاً لـ»إبداع» جلاديه وخيالهم ومبادراتهم الذاتية، ومن غير المتصوّر أن كل هذه الأهوال المتنوعة، قد مورست تنفيذاً لأوامر محددة مكتوبة، واردة من جهاز ما، ووفقاً لعقلانيته الخاصة، كما حدث في المجازر النازية مثلاً، إضافة لهذا فهو عنف عقائدي، بمعنى أنه يحمل منظوراً ما حول الحياة والبشر والتاريخ، ولكن لا يمكن مطابقته مع أي تصور ديني أو أيديولوجي أو فلسفي معروف.
طبيعة العنف السوري تجعله إذن حالة خاصة، تطرح كثيراً من الأسئلة، الضرورية لفهم التركيبة السورية نفسها، أو البنية العميقة، التي يندرج فيها النظام ومعارضوه، وإذا كان استقصاء الجانب الوظيفي والمؤسساتي في ذلك العنف متعذراً حالياً، وربما على المدى القريب والمتوسط أيضاً، ما دام أرشيف النظام لن يُكشف قريباً أمام هيئات قضائية أو أكاديمية حرة، فمن الممكن تعيين بعض الأسئلة حول الجانب الرمزي والثقافي والأخلاقي للأهوال السورية، ومحاولة الإجابة عليها بالاستعانة ببعض القياس التاريخي والمنظور التأويلي: ما الجذور الثقافية لكل هذا التعذيب والانتهاك؟ وهل يمكن تحديد بنيان رمزي، يعطي لكل هذه الجرائم معنى ما، من منظور مرتكبيها على الأقل؟
أما الجحيم السوري فربما كان أقرب للحساب الديني، إذ يتم إيلام كل ضحية، بعد وصمها بالمسؤولية الشخصية عن خطيئة انتهاك سلطة الرئيس/الرب. ولكنه نسخة مشوهة عن القيامة الدينية، فهو يجعل العدالة، التي لا معنى لها إلا بالارتباط بقدرة الرب وعلمه، مناطاً بفهم البشر المحدودين.
العنف الأخلاقي
صيغت نظريات فلسفية شهيرة عما يُعتبر الهول الأكبر في تاريخ البشرية، أي المحارق والمعسكرات النازية، وتشترك معظم هذه النظريات، كما ترد لدى زيغمونت باومان وحنا أرندت وجورجيو أغامبين مثلاً، باعتبار العنف النازي تجسيداً لنمط من العقلنة الحديثة: ماكينة هائلة ذات تنظيم عقلاني- بيروقراطي متين؛ وأيديولوجيا شمولية، تمتلك منظورا تاريخياً خلاصياً، وفهماً معيّناً للقانون، الطبيعي والاجتماعي، أنتجت «حلولاً نهائية»، راح ضحيتها الملايين، في إطار الولاء لدولة شمولية، وجماعتها السياسية المفترضة، قادرة على تحديد معنى جمعي لهندستها الاجتماعية الدموية. بهذا المعنى فإن الجلادين الأفراد، من موظفين ومجندين وفنيين، افتقروا للقدرة على الحكم الأخلاقي، وتكوين تصور كلي عن الأفعال الجزئية، التي كانوا يقومون بها، بل كانوا ينفذون، بنوع من التسليم الأعمى، أوامر ولوائح واردة من جهاز أكثر شمولية وضخامة، يعقلن الأمور بطريقة أوسع من فهمهم المحدود، سالباً إياهم القدرة الفردية على التعاطف مع الآخر، وطرح الأسئلة الأخلاقية التي يثيرها الألم والموت عادةً، ولذلك فالهول النازي لم يكن شخصانياً، بل بارداً ومحايداً وبيروقراطياً. باومان تحدث عن «اللامبالاة الأخلاقية» في الحداثة، بينما اشتهرت أرندت بأطروحتها عن «تفاهة شر» جلادي النازية.
لم يكن الهول النازي ذا فائدة اقتصادية، مثل معسكرات العمل الكولونيالية مثلاً، بل سعياً أكثر شمولية، واتصالاً بعقلنة الطبيعة والتاريخ، لاستئصال مجموعات بأكملها، شُبّهت بأورام سرطانية في جسد الأمة. هذه الإحالة الفيزيولوجية جعلت الجلادين والضحايا في الوقت نفسه مفتقرين إلى الخيار والمسؤولية الشخصية. لا أحد يُعاقِب أو يُعاقَب بناء على خياراته الذاتية، بل تنفيذاً لجراحة تاريخية صعبة تقوم بها السلطة، التي احتكرت العنف والعقل والمسؤولية. بالنسبة لأغامبين فإن رد البشر إلى حالة «الحياة العارية»، أي نزع كل الضمانات القانونية والحقوق الإنسانية عنهم، هو وضع متضمن في قلب الدولة والقانون الحديث نفسيهما، وليس حالة طبيعة على الإطلاق، ويتجسد فيه المعنى الفعلي للسيادة، التي لا تبرز في أوضح صورها إلا في «حالة الاستثناء».
كل هذه الأفكار والتنظيرات قد تتقاطع مع الحالة السورية، ولكنها لا تتمتع بفائدة تفسيرية كبيرة، فالدولة السورية ليست ماكينة عقلانية/بيروقراطية هائلة، وليست معنية كثيراً بعقيدة خلاصية معلمنة. تبقى الرثاثة العامة الطابع الأبرز لـ»المؤسسات» السلطوية السورية، كما أنها ليست كياناً فوق المجتمع أو الأفراد، فحضور الزعامات، العصب، العشائر، إمارات الحرب المناطقية والطائفية (وكل هذا «أهلي» جداً) أساسي فيها وفي آليات اشتغالها، فضلاً عن هذا فهي لا تولي جدلية القانون/الاستثناء أهمية كبيرة، بل كثيراً ما تعمل وفق العرف الشفوي؛ ما تقتضيه تقاليد شبكات المصالح، المرتبطة بعلاقات القرابة والولاء؛ العصبيات الأولية؛ والتأويلات المشخصنة للقانون. من الظلم تشبيه هذه الدولة بدول صناعية حديثة، ذات سمت شمولي أو غير شمولي، دون أن يعني هذا أنها دولة تراثية أو تعيش في عصور سابقة، إنه نمط من «الحداثة» يتطلّب فهمه تجاوز النظريات النقدية المتداولة.
الأهم من هذا أن شخصانية الهول السوري تنفي مفهوم «اللامبالاة الأخلاقية» لدى مرتكبيه. يدرك الجلادون السوريون جيداً ما يفعلون، وليسوا مجرد مسننات مفردة ومحايدة في ماكينة هائلة.. ولديهم تصور أخلاقي ما عن معنى وعدالة ما يقومون به. أنماط التعذيب، التي ظهرت للعلن، تكشف كثيراً من الخيال والاجتهاد الفردي والمنظورات القيمية، ما يجعله عنفاً أخلاقياً، لسنا أمام أشرار «تافهين» بالتأكيد.
التجديف الورع
يمكن اعتبار أن التجديف أسلوب مفضل للجلادين السوريين لإذلال ضحاياهم: يُجبر المعتقلون والمعذّبون على التصريح بأن الرئيس السوري بشار الأسد هو ربهم، في تحريف واعٍ للشهادة الإسلامية. في حالات أخرى يؤكد الجلادون أن الأسد أقوى من الله نفسه، ويسخرون من أمل ضحاياهم بإنقاذ إلهي من جبروته.
ربما كان من الخطأ قراءة هذا التجديف بوصفه مجرد ممارسة طائفية، بل يبدو الأمر أشبه بمحاكاة أرضية لأهوال القيامة والحشر والعذاب الإلهي. يمكن للجلادين السوريين إقامة الجحيم هنا والآن، ما يجعل زعيمهم تجسيداً أرضياً للرب، أكثر قوة بنظرهم، لأن ألمه محسوس وحاضر، وليس أثراً لغوياً من النصوص الدينية. التجديف هنا لا يقوم على إنكار الأخبار الدينية عن الآخرة، بل يمكن اعتباره تأكيداً لها: العدالة الإلهية المطلقة تقضي بألم لا محدود للعصاة. ومبدأ الألم اللامحدود، لأجل تحقيق عدالة ما، قد يشكل أساساً لا واعياً لفعل الجلادين. سبق للباحث العراقي هادي العلوي، في كتابه «من تاريخ التعذيب في الإسلام»، الحديث عن «مقتربات دينية للتعذيب»، مرتبطة أساساً بالمرويات الدينية عن العذاب الآخروي، وقانون العقوبات الديني، بما فيه من بتر وتمزيق للجسد. يمكن لهذا اعتبار تجديف جلادي النظام ورِعاً و»أخلاقياً»: العدالة الإلهية، التي حلّت في شخص زعيمنا، تتطلب هولاً شديداً، له قداسته.
محاكاة الجحيم
المعسكرات النازية بدورها كانت محاكاة للجحيم، ولكن محاكاة معلمنة، تفتقر لإيمان بيوم الدينونة، الذي يحاسب فيه كل إنسان على سعيه الدنيوي، ما يمنحه المسؤولية الأخلاقية الشخصية. الجحيم النازي كان يرفض الخُلَق الفردي، لحساب معادلات تاريخية وطبيعة مجرّدة.
أما الجحيم السوري فربما كان أقرب للحساب الديني، إذ يتم إيلام كل ضحية، بعد وصمها بالمسؤولية الشخصية عن خطيئة انتهاك سلطة الرئيس/الرب. ولكنه نسخة مشوهة عن القيامة الدينية، فهو يجعل العدالة، التي لا معنى لها إلا بالارتباط بقدرة الرب وعلمه، مناطاً بفهم البشر المحدودين. ومن ناحية أخرى لا يقبل بالشريعة الدينية، وأحكامها المعروفة، بل يجعل الدين مخيالاً لا واعياً لتحقيق جبروت السلطة، وزرعه في نفوس المحكومين. بالعودة لهادي العلوي فقد بيّن في كتابه مواقف الفقهاء المسلمين الرافضة للتعذيب غير المرتبط بأحكام شرعية، في مواجهة المخيال الديني الدموي للحكام المسلمين عبر التاريخ.
بناء على هذا يمكن القول إن العنف السوري ليس حداثياً ولا إسلامياً ولا عرفياً. ربما يكون مزيجاً من كل ذلك، وقد يكون هذا سبب طابعه المربك: بنية رمزية مختلطة ومشوشة، قد تشبه البنية الاجتماعية والسياسية السورية نفسها.
كاتب سوري
“القدس العربي”