في حكاية الرأفة بالشعب والتسامح معه، بصرف النظر عن اختلاف التسميات وتطابق المحتوى، يبدو جديد الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون أكثر حرصاً على الدراما من سابقيَه اليمين زروال (مشروع «قانون الرحمة»)، وعبد العزيز بوتفليقة («قانون الوئام المدني» و«ميثاق السلم والمصالحة الوطنية»)؛ لأنه يبدأ من برقية/ مقالة تنشرها وكالة الأنباء الرسمية، تلمّح إلى مشروع سياسي بعنوان «لمّ الشمل»، يحظى بـ«غطاء رئاسي»، هو حتى الساعة مفتوح على أشكال شتى من الإبهام، أو ما يشبه الغموض المدروس الطافح بالتأويلات والاحتمالات، و… السيناريوهات، أيضاً.
وللمرء أن يبدأ من عنوان البرقية/ المقالة، «عبد المجيد تبون، رئيس جامع للشمل»، حيث لا تتوسّل الصياغة إطراء الرئيس/ الأب والرئيس/ الرحيم والرئيس/ المنفتح، وسوى ذلك من صفات اعتاد إعلام الأنظمة العربية إغداقها على الرؤساء والملوك والزعماء، فحسب؛ بل تتقصد التبشير بذاك المنتظَر المأمول المشتهى الذي، مع ذلك، قد يأتي ولا يأتي، فيبقى معلّقاً عند سقوف النبوءات والتكهنات والتقولات. وأمّا في متن المادّة المبشّرة، فالمرء يقرأ عن رئيس «انتخبه الجزائريون المتطلعون لحلول جزائر جديدة»، وهو استطراداً وبالضرورة: «يُعتبر رئيساً جامعاً للشمل»؛ الأمر الذي لا يعني أنه جامع لكلّ شمل، إذْ يحذّر النصّ: «يد الرئيس عبد المجيد تبون ممدودة للجميع، بشكل دائم، ما عدا للذين تجاوزوا الخطوط الحمراء وأولئك الذين أداروا ظهرهم لوطنهم».
وحتى الساعة، أو حتى إشعار آخر قد يطول أو يقصر، لا يلوح أنّ متجاوزي الخطوط الحمراء أولئك يمكن أن يزيدوا عن حركة «رشاد» الإسلامية، وحركة «ماك» الأمازيغية التي تطالب بتقرير المصير في منطقة القبائل؛ في انتظار أن ينتهي تجمّع «إرشاد»، المنشقّ حديثاً عن «رشاد»، إلى استقرار ضمن حضن الأحزاب الدائرة في فلك السلطة أو انتهاج معارضة رشيدة هادئة مهادنة. بيد أنّ معادلات الإسلام السياسي في الجزائر، أسوة بالحراك الاحتجاجي الأمازيغي، ليست وليدة عهد تبون، ولا حتى أواخر رئاسات بوتفليقة؛ الأمر الذي يشكّل ارتدادات دائمة من الماضي تخترق الحاضر أو تتكفّل بتقويض هذا القدر أو ذاك من سكونه ورتابته أو، لمَن يشاء، تسدّ الدروب إلى وئامه وسلامه والتئام شمله!
فهل يصحّ أن تُنسى حقيقة أولى كبرى تقول إنّ الديمقراطيات الغربية (فرنسا والولايات المتحدة خصوصاً) تنفست الصعداء بعد انقلاب 1992، حين صادر الجيش الجزائري صندوق الاقتراع (طوطم الديمقراطية الغربية، دون سواه!) ودفع الجزائر إلى بركة الدم؟ أو ما حدث، مراراً، من أنّ الديمقراطيات إياها انتقلت سريعاً إلى ما هو أدهى من تنفّس الصعداء، أي إلى مدّ المافيا العسكرية بأسباب البقاء اللازمة، كي تسيل أنهار جديدة من دماء الجزائريات والجزائريين؟
أو تلك الحقيقة الثالثة التي تقول إنّ مشروع بوتفليقة حول «الميثاق من أجل السلم والمصالحة الوطنية» كان يهدف إلى طيّ العقد الدامي الذي عاشته الجزائر بين 1992 و2003، وأسفر عن أكثر من 150 ألف قتيل وآلاف المفقودين (18 ألفاً، في إحصاء «الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان»)؛ فانتهت النتيجة إلى ما يشبه الحصيلة صفر لجهة استمرار الاستبداد والفساد وهيمنة المافيات العسكرية والمدنية، رغم أنّ المشروع حظي بنسبة تأييد قاربت الـ97%. إذْ، ببساطة قصوى، كيف يمكن للمواطن الجزائري أن يقول لا رافضة للسلم والمصالحة الوطنية، أو أنه ليس بعد «من الحيوي بالنسبة للجزائريين والجزائريات والأسر الجزائرية، ان يتساموا نهائياً فوق هذه المأساة»، أو أنّ الشعب الجزائري يأبى «أن يتجاوز الفتنة وعواقبها الوخيمة ويعود نهائياً إلى سابق عهده بالسلم والحرية»… كما جاء في «ديباجة» مشروع الميثاق؟
قصارى القول، والحال هذه، أنّ برقيات تبون حول لمّ الشمل لا تُبرق الكثير بمعزل عن إبهام القول وغموض المقاصد؛ وفي هذا فإنه لا يتفوّق على سابقيه من رؤساء الجزائر إلا في واحدة: تقنية تعمية العيون، برقياً!
“القدس العربي”