حاول أن يُعيد قراءة ما كتبه، فاتخذ وضعاً ملائماً. مَطَّ رقبته، ثم رسم في فمه فتحة بحجم الحرف الأول. وبحث في حلقه عن لسانه. (في المستقبل حين يجد مرآة في الطريق سيكتشف أن اللغات لا تنطق باللسان). اتكأ على شيء بجانبه، متذكراً كل محاولاته السابقة في الكتابة، ثم تسلح بقوة ثقافته ووضع أصابعه داخل الحنجرة، ربما كان لاصقاً بسقف الحلق أو في مؤخرة اللهاة (يا إلهي.. هل كان هو ما مضغته طويلاً ليلة الأرق.. وبصقته آخر الليل؟ كيف لم أدرك ذلك؟). حاول أن يسأل نفسه عن طعم ذلك الشيء لكنه لم يقو على السؤال. لقد كان مرّ المذاق. بَرَقَتْ في ذهنه كلمة المتلمس لطرفة يوم كان طفلاً منتبهاً لأخطاء خاله، يجرأ على نقد عثراته الأدبية، فيرد عبى طرفة: (ويل هذا من هذا)، مشيراً إلى لسان طرفة ورأسه. أي لسان يمكن أن يؤدي بصاحبه إلى التهلكة، كلما اجترأ بالنقد والاعتراض.
«أكتب طوال السنوات، صرتُ مشهوراً مثل أنواع الصابون، تنشر صوري الجرائد كالمجرم المطلوب حياً أو ميتاً. تقام المهرجانات على شرف كتابي الجديد، والآن. لا أقوى على القراءة. لساني.. هل وجد أحدكم لساني بين قدميه؟ كنت مستغرقاً في التفكير حين مضغته وحين لفظته. انسجمت مع مشاريعهم طوال الوقت. ارتكبتُ خطأ بسيطاً.. نسيتُ لساني في مكانٍ ما».
غَيَّرَ وضع جلسته على المقعد – ربما كان الوضع غير مناسب – لم يتكئ على ذلك الشيء. سحبَ رقبته، كالسلحفاة، إلى كتفيه حتى كاد رأسه أن يختفي بين عظمتي الكتفين. فتح فمه قليلاً بحيث يتسنى لرأس الكلمة أن تطل فقط. تذكّر أن مغنياً لا يمتلك الموهبة كان يفعل ذلك دوماً، وتنجح أغانيه المبتذلة، غير أن كلماتي، كتابتي ليست كذلك».
استدعى أسطورته اللغوية، وقال: «سأتكلم الآن».
نَطّ شيءٌ يشبه اللسان، وجلس على حافة الشفة السفلى ناطحاً الصف العلوي من الاسنان بعظمته الحجرية، ثم صرخ بدعارة لغة غير مفهومة، لا، أنا من سيتكلم الآن.
أخذت الدهشة كل ملامح الوجه واستنفرت.
أنا الذي يتكلم أم لساني؟ كيف يجرؤ على ذلك؟ أكتبُ وأتكلمُ.
ماذا يريد هذا اللسان أن يقول؟ ليس بوسعنا أن نتكلم معاً في آن واحد، عليه أن يسكت. أردتُ أن أقرأ ما كتبته منذ عشرين عاماً.
إطلاقاً، أنت لا تحسن الكلام، كنتَ تقلّد حركة الفم عند من حولك. دعني أتكلم هذه المرة. لقد ارهقتني وأنت تنطقني ما لا أريد. (ها هو يهدد أيضاً). لِمَ لا أمضغ سهواً وأبصق قصداً. هذه الهفوة اللذيذة آن لها أن تتحقق. لماذا؟ لقد كنتَ تستلقي على قفاك وتقول الأشياء المعروفة. كان الأطفال يضحكون، لأنهم يعرفون جيداً أن ما تقوله ليس مستقبلهم، لكنه ماضيك. والآن هذه الأوراق المكدّسة أمامك سوف أمحوها بلهب السؤال. (لابد أنني أهذي). هذا الوضع لم يكن مناسباً إطلاقاً. ثم إن هذا المقعد يؤلم خاصرتي. لا بد أن نجاراً صنعه من دون خبرة.
هؤلاء لا يجيدون العمل
مَسَحَ عرقاً كان يتفصّد من رئتيه، رَسَمَ من حول قاعة، وانتدب فيها جمهوراً واسعاً (هكذا يتكوّن لديَّ حافزٌ للكلام، للقراءة الشجاعة. من دون الجمهور لا يقوى الكلام على الإيقاع)، ثم رفع ذراعه بقوة إلى الأعلى ليشرع في القراءة. ليس ثمة لسانٌ هناك. دُهشَ حين رأى على الورق شيئاً غريباً لم يكتبه.
(لكن هذه الأوراق لم أكتبها، ولم أعرف لغة مثل هذه. كلمات مربوطة بحبل من الوهوهة، وسجود لا ينتهي بين السطر والآخر. هل هذه صلاة، ثمة محرابٌ. هذه المنارة المتداعية. هذه العلاقة بين الحبر والحرف. لم أصنعها أبداً. كيف؟) تكوّر على سجادة عتيقة وكوّم الأوراق، طفق يقرأ الكبريت ويكتب النار.
«أتكلم بدلاً منك. دعني مرة واحدة أقول ما لم تقله قبلاً، أعلّمك ماذا تقول، وكيف».
فتح نافذة على السقف وسأل الوقت عن اللغة. دخلت الهراوات ومسيلات الدموع وصراخ لا يقبل الترجمة. فتح حواراً مع لسانه، فاتفقا على أن مؤامرة على الأطفال يدبّرها الكلام المكتوب قبل الولادة. احتضنَ لسانه وقبَّله بشوق، وسأله عن سفره الطويل بين اللهاة وقاع الحلق. حدثه طويلاً وأخذه معه في رحلة. قال له إن كل الأوضاع التي يتخذها لكي يقرأ، لا تناسب القراءة. قد تصلح للجلوس لكن ليست للقراءة.
انسحبت الدهشة، تعرف على ملامحه بشكل أفضل، وتأكد أن سنوات من تاريخه استُنزفت في الكلام الذي لم يكتبه. حاول أن …
قلتُ لك إنه دوري في القراءة والكتابة، الكلام الآخر. وضع السؤال على شفتيه. عانقه اللسان، وقال: أنا…
لم يكمل جملته الأولى.
الآخرون دخلوا في كلمته، وبدأوا يصوغون الضمير بشكل أجمل.
شاعر بحريني
“القدس العربي”