يبقى الخامس من حزيران علم 1967 – حتى الآن – أشهر يوم في تاريخ العرب الحديث . يتمركز في ذاكرتهم ، ويثقل على روحهم ووجدانهم ، وتنوء تحت حمله مجريات حياتهم اليومية منذ أكثر من أربعة عقود ، يوم انفجرت الهزيمة الكبرى في وجه الجميع . وطالت القريب والبعيد ، دول الطوق التي اشتركت في الحرب ، والتي ساندت أو دعمت ، وتلك التي تفرجت من بعيد ، حتى أولئك الذين يتناثرون بالمهاجر في أربع أصقاع الأرض . ومهما زين المزينون وادعى المدّعون ، فما زال الخامس من حزيران الوشم الأعمق والأبلغ أثراً على جسد الأمة العربية وروحها ، يعلن كل يوم عن عمق الهزيمة واستمرارها .
لم يكشف ذلك اليوم عن هزيمة الدول فحسب ، إنما عن هزيمة المجتمعات أيضاً . ولم يقم بتعرية الجيوش العربية بتكوينها وأهدافها وطرق عملها فقط ، بل عرّى الشعوب بمنظماتها وأوضاعها وعلاقاتها في الوقت نفسه . وأظهر بوضوح يفقأ العيون فوات وهشاشة بنية الدولة وحقيقة عدم انتمائها إلى العصر . وهو لا يعيش في ذاكرة الأجيال التي عاصرته واكتوت بذل مواجهته ، بل يستقر أيضاً في ذاكرة الأجيال اللاحقة التي لم تعاينه ، بل عاشت وتعيش مفاعيل انكساراته وتداعياته المستمرة .
انشغل كثيرون بالتفسير والتعليل ، وتوقفوا طويلاً أمام عتبة الظواهر الخارجية كالتفوق التكنولوجي للعدو والدعم الدولي الكبير له . ومضى بعضهم لمناقشة الأطروحات الفكرية والسياسية للتيارات العربية المختلفة بشكل سريع وسطحي ، وتكاثر الانتقال والتقافز بين هذه التيارات اللبرالية والقومية واليسارية والإسلامية ، وأعيدت اللعبة من جديد بنفس الأوراق المحروقة والأساليب المهترئة والمهزومة . وبقي آخرون يتباكون على الوحدة العربية ، ويضعون في أس الهزيمة الانقسام العربي ، ويحيلونها إلى عدم التنسيق بين الدول والجيوش ، وإلى أشكال التآمر والخيانة السرية والعلنية. وبقيت الدولة العربية والسلطة وأشكال التسلط فيها بمنأى عن النقد والتشريح . فواصلت الأنظمة ، التي استمرت رغم أنف الهزيمة والشعوب ، نهجها الدائم في استيلاد أساليب التضليل والشعارات الخادعة وإتقان الالتفاف عليها ، مثل لاءات الخرطوم الثلاث " لا اعتراف لا صلح لا مفاوضات " و " لا صوت يعلو فوق صوت المعركة " و " فشل العدوان في تحقيق أهدافه " ، لتتلاقى مع المقولات الساذجة من نوع انعدام المحبة بين الناس ونقص الإيمان عندهم ، وتشكل بروباغندا متناغمة لإبقاء جوهر الهزيمة خارج التداول والبحث ، و إبعاد المسؤولية عن أصحابها ، تمهيداً لاستمرار الأنظمة في موقعها وعلى حالها ، وإبقاء الشعوب بعيدة عن إدراك الكنه الحقيقي للهزيمة والطريق الفعلي للخروج منها .
قليلة هي المساهمات الجادة في البحث بشؤون الهزيمة وشجونها . أتت متناثرة في بطون الكتب والمحاولات الفكرية والسياسية المسؤولة من مشرق العرب ومغربهم . أثارها مثقفون يتمتعون بما يكفي من المعرفة والشجاعة والإخلاص والموقف الوطني الصلب لمواجهة الذات والآخر والواقع المؤلم بوضوح وصرامة لاستيلاد الوعي القومي المطابق لتجاوز الهزيمة واستئناف النهضة . لكنها بقيت خارج دائرة الضوء وحبيسة الأدراج والمناقشات النخبوية الخاصة ، نتيجة الضوضاء الشكلانية والمفتعلة التي أحدثتها الأنظمة باستبدال شخص بشخص ، أو مجموعة حاكمة بأخرى مثلها ، فأشاعت مناخات زائفة من التغيير الوهمي ، ما لبث أن استعاد موقعه في تعميق مفاعيل الهزيمة وتأمين استمرارها .
كان هذا حال الأنظمة العربية على اختلاف ممالكها وإماراتها وجمهورياتها . فسمتها العامة الاستبداد والاستيلاء على السلطة بالقوة ( قوتها أو قوة الغير ) خارج أي نوع من الشرعية الشعبية الحقيقية ، وهدفها الأساس الاستمرار بأي ثمن .لذلك بقيت موحدة في طريقة تصرفها وتعاملها مع الشعوب في الداخل ، على الرغم من اختلاف ولاءاتها وتحالفاتها وشعاراتها وسياساتها المعلنة في الخارج . وتلازم اندغام السلطة السياسية مع البنى الاجتماعية ما قبل القومية ، مع تنامي ظاهرة الاستبداد كشرط لازم لتأمين استمرار الفئات الحاكمة في التربع على رأس السلطة والتحكم بشؤون البلاد والعباد . وآل فيما بعد إلى توحيد الزمر الحاكمة ( أسر وقبائل تقليدية وأحزاب وجبهات مستحدثة ) وتحولها إلى عصبيات مالكة للدولة ، بحيث تحولت مؤسساتها السياسية والاقتصادية المركزية إلى امتداد وظيفي لهذه الزمر ، وأصبح الولاء للوطن يترجم في النهاية على أنه ولاء للأسرة المالكة أو الحزب القائد أو للشخص الحاكم بذاته .
وهكذا تابع التطور الجاري في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ابتعاده عن مواجهة الواقع وتلبية حاجات الوضع القائم ، وعمل على تعميق مسار تدهوره وانحداره ، متناقضاً بشكل صارخ مع حقائق العالم المعاصر التي بدأت تتكشف منذ تسعينات القرن العشرين . ليظهر الوضع العربي اليوم استثناء واضحاً على سطح الكوكب في تراجع مؤشرات التنمية وتقلص فضاء الحريات العامة وحقوق الإنسان إلى حد الانعدام أحياناً ، وتكلس النظام السياسي العربي على وضع من الاستبداد المقيم والمختلف في الدرجات ، لكن الموحد في الهدف والنتيجة والمآل ، يمنع التقدم نحو آفاق الحرية والديمقراطية والعدالة ، لتبقى الهزيمة في أمان .
واليوم ، يمكن لأي مراقب أن يتلمس بوضوح مفاعيل الهزيمة المستمرة مما تقوله وتفعله إسرائيل في الأراضي العربية المحتلة ، دون أي ردود فعلية وإيجابية ورادعة من الجانب العربي ، غير الركض المحموم وراء المفاوضات وتقديم التنازلات ومشاريع التسوية من طرف واحد . ويبقى الوضع الفلسطيني بما يشير إليه من مخاوف ، وما يحمله من مخاطر على الشعب والقضية أخطر المفاعيل المستمرة للهزيمة ، التي تنتمي للهزيمة العربية الحزيرانية ، وقد تحيل إلى حزيران فلسطيني ، لكن بأيد فلسطينية وامتداد عربي هذه المرة .
5 / 6 / 2009
هيئة التحرير