تقترب هذه اليوميات التي اخترنا ترجمتها إلى اللغة العربية من مشاهدات الكاتبة والصحافية الفرنسية آن برونسويك أثناء مقامها في رام الله وتنقلها بين مخيمات اللاجئين والمعابر والحواجز الأمنية الإسرائيلية. وتكثف هذه السرود المكتوبة بلغة شفافة وموحية لمعاناة الفلسطيني اليومية في ظل الاحتلال الصهيوني. تمكنت آن برونسويك على امتداد هذه اليوميات التي يختلط فيها اليومي المعيش للفلسطينيين، بجرعات وافرة من التراجيديا والكوميديا السوداء من فضح البروباغندا الرهيبة للكيان الصهيوني، وكشف تهافت المسبقات النمطية الجاهزة والمألوفة في خصوص فلسطين والفلسطينيين.
رام الله الجمعة 3 أكتوبر/تشرين الأول 2003
لا يختلف يوم الجمعة هنا عن يوم السبت عند الجيران. حركة المرور نادرة جدا وليس ثمة أي صوت لمنبهات السيارات منذ الصباح. وقد ذهب الكثير من الناس لأداء الصلاة في الحادية عشرة. وسيعقب ذلك اجتماع سياسي صغير. كان يوما هادئا في الإجمال. وصلت منذ خمسة أيام وتحديدا في ظهيرة يوم الأحد. تمكنت من الاستقرار تماما في شقة كبيرة مؤثثة على بعد مئة متر من ساحة المنارة، حيث تنطلق كل سيارات الأجرة. وهي مجهزة بتلفون ثابت ومحمول وشبكة الإنترنت. شكرا لأصدقائي السينمائيين الإسرائيليين وكناش عناوينهم. ليس أسهل من نسج العلاقات، سواء في الشارع أو ساحة الجامعة أو في المقاهي أو وسط الجيران والتجار أو النصارى والمسلمين أو الناطقين بالفرنسية أو الإنكليزية. لا يرغب الفلسطينيون الا في الحديث واستقبال الضيف.
لا تعطيك الحياة اليومية هنا الانطباع بأنك في بلاد حرب. صحيح أن مكاتب ياسر عرفات توجد على بعد كيلومتر واحد، وأنه في مقدور الجيش الإسرائيلي في أي لحظة محاصرتها وقصفها. لم يبق من البنايتين الكبيرتين اللتين يعود تاريخهما للحقبة البريطانية إلا ركام من الخرائب والأطلال، التي كانت إلى حدود 2002 تأوي مكاتب القوات الأممية. طوابق انهارت فوق بعضها بعضا وركام من الأتربة والإسمنت معلقة بأسلاك معدنية. ركام ضخم من الحديد والإسمنت. ووحدها البناية التي يقيم فيها عرفات أو أبو عمار كما يدعى هنا ظلت واقفة في عمق ساحة مفتوحة على الرياح.
قيل لي إن الجنود الإسرائيليين يقومون بمداهمات مباغتة للمدينة بحثا عن مشتبه فيهم، أو للاستفزاز والتحرش فقط. وأكثرهم خطورة أصغرهم سنا، إذ لا يتجاوزون العشرين. وما يميزهم الشعور بالخوف والجهل المطبق بالحقائق التي تحف بهم. يتحدثون بينهم باللغة الروسية ويفهمون قليلا من العربية. ولأنهم يحملون سلاحا داخل أرض محتلة فإن هؤلاء الجنود العشرينيين الحديثي العهد بالمجتمع الإسرائيلي، الذين ترعرعوا في غمرة ألعاب الفيديو يشعرون على حين غرة بأنهم أشخاص مهمون.
بيد أنني لم أر والحق يقال أيا منهم منذ اليوم الذي اجتزت فيه المعبر الأمني والشأن نفسه بالنسبة للشرطة الفلسطينية، اللهم إلا إذا استثنينا ذلك الذي ينظم برخاوة حركة المرور عند مفترق الطرق، والحراس الثلاثة الجالسين في الكوخ الخشبي الذي تزينه صورة لياسر عرفات، والذي يستخدم كمقر حراسة للمبنى الرئاسي. ولا يرتدي أي منهم الزي العسكري كي لا يتحولوا إلى أهداف للجيش الإسرائيلي. المستوطنون الإسرائيليون المسافرون فوق التلال المحيطة بالمدينة غير مرئيين. ولا يتنقلون داخل رام الله. وقد انصرم زمن طويل، دون أن يطلقوا النار على الفلسطينيين من فوق منازلهم الشبيهة بأعشاش النسور.
لعل الإحساس بالهوان هو أكثر أسباب المعاناة اليومية هنا. فوق المرتفعات المطلة على المدينة يستمر المستوطنون الإسرائيليون في تحويل السكان الذين يبلغ تعدادهم ستين ألف نسمة إلى أهداف محتملة.
قيل لي إن رام الله شبيهة بالشانزليزيه في باريس. ونفهم من ذلك انها مدينة غنية تأوي بورجوازية لا يستهان بها تدين بالمسيحية والإسلام. متاجر فاخرة وفيلات بحدائق وإقامات ثانية شيدت في ثلاثينيات القرن الماضي من لدن عائلات عربية من الإمارات، كانوا يعشقون طقس هذه المدينة ولياليها ذات الحرارة المعتدلة في غمرة شهور الصيف. تابع العديد هنا دراساتهم في فلسطين وأوروبا وأمريكا ويحتفظ بعضهم بأواصر قربى بالولايات المتحدة. يشتغل الآلاف منهم في المصالح الإدارية الفلسطينية، فيما يتجاوز عدد الأجانب الذين يعملون في المنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية والتمثيليات الثقافية المئتين. وهؤلاء من يعمرون المقاهي الخمسة وسط المدينة حيث يقدم البيرة والنبيذ.
تذكرني الهندسة والمعمار والطبيعة وأجواء المتاجر بما شاهدته في القدس في سنوات الستينيات من القرن الفارط خلال زيارتي الأولى لجدتي. يتعلق الأمر بمشهد لا نهاية له من التلال الصحراوية تمتد في اتجاه الشمال الغربي انطلاقا من شرفة غرفتي. الحجر المقدسي الأبيض ذاته الذي يؤثث واجهات المباني بما فيها الأحدث. روائح الياسمين والتين والليمون واللبلاب ذاتها في الحدائق. الكفر ناعوم المرح ذاته في مواقف سيارات الأجرة في أعلى المدينة. والندل وهم يقدمون فناجين القهوة للسائقين في صينيات. الزليج المبقع ذو اللون الرملي داخل الشقق والمغطى بالسجاد ذاته. الرخام ذاته الذي يحيط بالأحواض والاحجام ذاتها للغرف والتي تتميز بكونها مربعة وبمساحة واسعة. تتميز مقاومة الاحتلال الإسرائيلي داخل التراب الإقليمي لرام الله ببطئها. وباستثناء مخيمات اللاجئين والمخيمات المجاورة في جالوزون في الشمال وقلندية في الجنوب، فإن الجنود الإسرائيليين يتعرضون بانتظام لرشق الحجارة من لدن الأطفال. وإذا كانت رام الله شانزليزيه فلسطين، فإن غزة تعتبر الأكثر بؤسا، فيما تقع جنين ونابلس بينهما. الفروق الطبقية الاجتماعية جلية للعيان هنا، ولا اتصال بينها كما لا يختلط الزيت بالماء.
يستجيب ارتداء الحجاب لاقتضاءات اجتماعية دقيقة يستعصي عليّ الآن إدراكها، وأثناء الاحتفال الذي نظم يوم الاثنين تكريما لإدوارد سعيد، والذي ضم عددا لا يستهان به من النخبة المحلية، كانت النساء المحجبات غائبات تماما في الوقت الذي يحظين فيه بالأغلبية في الشارع. وعند عائلة حزري التي استضافتني في بيتها لتناول الطعام الفاخر ليوم الجمعة، كانت الأم التي تقترب من الستين قد ارتدت بالمناسبة اللباس الفلسطيني التقليدي وغطت رأسها بمنديل في ما ظلت بناتها وكناتها حاسرات الرؤوس. كانت إحدى بناتها أستاذة للعلوم في معهد تقني عالٍ تموله الأمم المتحدة، فيما انتهت الأخرى من دراسة الصحافة في جامعة بيرزيت. أما الكنة فتعمل في أحد البنوك.
كان مجيد الابن الأكبر للجارة يتحدث الفرنسية بطلاقة، وقد تابع دراسته في القانون في فرنسا، كان في الخامسة والثلاثين من عمره وكان يتمتع شأن كل الفلسطينيين بقامة طويلة وبنية قوية، وكان مكلفا بالعلاقات الدبلوماسية مع فرنسا ويتردد بانتظام على باريس، ويستقبل الوفود الرسمية. قال لي: تعرض الطلبة الذين رشقوا ليونيل جوسبان بالحجارة في بير زيت للعقاب، ومنعوا طوال شهور من الدخول إلى الجامعة: ليس لنا في أوروبا إلا حليف واحد وهو فرنسا وكانت معاملته بهذه الطريقة فضيحة. وقد قدم رئيسنا في التو اعتذاره. ومهما يكن فالجار ـ إسرائيل- مصمم على حسم الموقف مع المتطرفين وبأسرع وقت. يتعلق الأمر بشرعية السلطة الفلسطينية، التي يعمل لصالحها، والتي يرغب في أن يمحضها ثقته بوصفها تعايشا مستقبليا سلميا لدولتين منفصلتين.
غير أن سليم قتاب المسؤول عن جمعية تؤمن باللاعنف لا يتبنى هذه الواقعية السياسية:
سليم: لقد تابعت دراساتك وتتوفر على وسائل للعيش تمكنك من مغادرة المخيم. لماذا تصر على البقاء؟
أملك شقة في رام الله لكنني أعود تقريبا كل مساء إلى المخيم. هناك تعيش أمي وأغلب أصدقائي. ننتمي جميعنا إلى القرية المجاورة لمطار اللد. مغادرتي للمخيم معناه التخلي عن حلمي بالعودة إلى قرية جدي وتربية أبنائي فيها. أبلغ من العمر ثلاثا وثلاثين عاما ولم أتزوج بعد. ولا أرغب في تربية أبنائي داخل المخيم.
تتحدث فعلا عن حلم. لكن إذا حدث وتحقق مشروع الدولتين فستكون مرغما على التخلي عنه. لا يمكنك والحالة هذه الاستقرار داخل حدود عام 1967.
ليس بالضرورة. يكفي أن أتزوج يهودية من هناك وأن انجب منها أبناء.
كان سليم راغبا في متابعة دراسته في الطيران، لكن افتقاره إلى المال اللازم حمله على الاكتفاء بدراسة الإنكليزية وتاريخ العلوم السياسية، لكن ذلك لا يحول بينه وبين التحليق ومواصلة الحلم بالعودة إلى أرضه الموعودة.
لعل الإحساس بالهوان هو أكثر أسباب المعاناة اليومية هنا. فوق المرتفعات المطلة على المدينة يستمر المستوطنون الإسرائيليون في تحويل السكان الذين يبلغ تعدادهم ستين ألف نسمة إلى أهداف محتملة. وفي المدخلين الجنوبي والشمالي للمدينة يحتل الجيش الإسرائيلي مواقع مهمة، وحيث يتموقع الجنود القناصة في أوقات التوتر والتصعيد. وتتكلف السلطات العسكرية على هواها بتسليم التصاريح اللازمة لأي تنقل داخل الضفة الغربية ويهدر في كل يوم وقت كثير بغاية تفادي هذه العراقيل. يستنفد الجهد ويضيق الأفق بشكل حتمي. لم يغادر عدد كبير المدينة منذ ثلاث سنوات. وفي زمن مضى كان التنقل إلى عمان يستغرق خمسا وأربعين دقيقة. أما الآن فيستغرق يومين. وكانت الرحلة إلى جنين تتطلب فقط ساعة ونصف اما الآن فتحولت إلى مغامرة مجهولة العواقب.
*كاتبة فرنسية
** مترجم مغربي
“الشرق الاوسط”