المصدر: بوليتيكو
ترجمة: عبد الحميد فحام
بقلم: دانيال ديبتريس وراجان مينون
ترى الولايات المتحدة وحلفاؤها أن المخاطر الأخلاقية والإستراتيجية التي تنطوي عليها حرب أوكرانيا هي ببساطة أن أوكرانيا ضحيّة للعدوان وروسيا هي المُعتدي.
إن الأمر لا يتعلّق فقط باستقلال أوكرانيا، ولكن أيضاً بإرادة العالم الديمقراطي المتمثّلة بالدفاع عن “النظام الدولي القائم على القواعد” المصمَّمة أمريكياً ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين – وهو المستبدّ حتى النُخاع.
لكن في كثير من أنحاء العالم، كان الحماس الأخلاقي الواضح في الردّ الغربي على هجوم روسيا على أوكرانيا غائباً بشكل ملحوظ. وبدلاً من ذلك، ظلّت دول مثل الهند والبرازيل والمكسيك وجنوب إفريقيا وتركيا وإندونيسيا غير ملتزمة إلى حدّ كبير وتعمل في الغالب لحماية مصالحها الاقتصادية والإستراتيجية. إن مثل هذه الدول تختلف سياساتها الخاصة تجاه الحرب.
فقد امتنع البعض، مثل الهند، عن التصويت على جميع قرارات الأمم المتحدة التي تهدف إلى معاقبة روسيا. وصوّت آخرون لبعض من تلك القرارات. لكن جميعهم رفضوا معاقبة روسيا علناً، ونتيجة لذلك، تعرّض البعض، ولا سيما الهند، لانتقادات شديدة في الولايات المتحدة.
حتى المملكة العربية السعودية، التي تربطها علاقات عسكرية وثيقة مع الولايات المتحدة منذ فترة طويلة، رفضت طلب واشنطن ضخ المزيد من النفط لتخفيف زيادات الأسعار في أعقاب فرض عقوبات غربية على روسيا، التي انخفض إنتاجها بمليون برميل يومياً منذ غزوها لأوكرانيا في 24 شباط/ فبراير وهو لا يزال آخِذاً في الانخفاض.
ما تشترك فيه هذه الدول هو أنها تميل إلى اعتبار الحرب في أوكرانيا صراعاً إقليمياً- وليس، كما يعتبره الغرب، تهديداً خطيراً للاستقرار العالمي والقوانين والأعراف التي يقوم عليها النظام العالمي. في الواقع، رئيس جنوب إفريقيا سيريل رامافوزا، رغم عدم دعمه للغزو الروسي، إلا أنه رأى أن سعي واشنطن الدؤوب لتوسيع الناتو ساهم في تفاقُم الأزمة مع روسيا في أوروبا والتي تحوّلت في النهاية إلى حرب.
كما فضّلت دول أخرى مصالحها الوطنية على دعوات الولايات المتحدة لعزل ومعاقبة روسيا. فلم تُدِنْ إسرائيل وتركيا روسيا علناً، وحاولتا حماية الفوائد الملموسة المهمة بالإضافة إلى إمكانية العمل كوسيط بين كييف وموسكو. الهند -من جانبها- تواصل تقييم علاقاتها الاقتصادية مع روسيا، ومنذ الغزو، استفادت من الأسعار المخفضة لشراء أكثر من ضعف كمية النفط الروسي عما كانت عليه في عام 2021 بالكامل.
تعتقد هذه الدول أن الجهود الدولية يجب أن تُركّز على تعزيز تسوية تفاوضية في أوكرانيا، وليس استخدام الحرب كفرصة لعزل روسيا، ناهيك عن عدم رغبتهم في إضعافها. ويضمن الاختلاف في وجهات النظر أن جهود الولايات المتحدة لإبعاد روسيا إلى مرتبة المنبوذ ستفشل، ليس لأن العديد من الدول تدعم غزو روسيا لأوكرانيا، ولكن لأنها تريد حماية الفوائد الخاصة التي تجنيها بعض الدول من علاقتها مع موسكو. ويعتقدون أيضاً أن إدانة روسيا علناً لن تفعل شيئاً لإنهاء الحرب في أوكرانيا.
في الغرب، يُنظر على نطاق واسع إلى هذه الدول غير الراغبة في الانحياز إلى طرف أحد الجانبين، وعدم قيامهم بتوبيخ روسيا، والوقوف إلى جانب أوكرانيا، وفرضهم عقوبات على أنها دول مُفلسة أخلاقياً وساذجة من الناحية الإستراتيجية.
وللإعلان عن تعاستها، لجأت الولايات المتحدة في بعض الأحيان إلى تهديدات غير خفيّة. فخلال زيارة إلى الهند، حذّر داليب سينغ، نائب مستشار الأمن القومي للاقتصاد الدولي للرئيس جو بايدن، من أن الدول التي تقوّض نظام العقوبات الأمريكية ضد موسكو قد ينتهي بها الأمر بدفع ثمن اقتصادي. وفي مؤتمر صحافي عُقد في 18 آذار/ مارس، كانت السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد صريحة بنفس القدر حين قالت: “لا يمكنكم الوقوف متفرجين على العدوان الذي نراه يحدث في أوكرانيا وأنتم تقولون إنكم ستكونون محايدين حيال ذلك.” بل إن بعض كبار المشرعين الأمريكيين اقترحوا أن تفكر واشنطن في فرض عقوبات على الهند.
ومع ذلك، لم تلقَ التهديدات والمحاضرات آذاناً صاغية في العديد من البلدان التي تنتمي إلى الجزء الجنوبي من الكرة الأرضية -وهو مصطلح شامل لمجموعة من البلدان الآسيوية والإفريقية وأمريكا الجنوبية- والتي ردّ بعضها في بعض الأحيان بغضب على خطاب ليّ الذراع هذا.
وكان من الأمثلة المفاجئة بشكل خاص موقف عمران خان، وهو الذي كان رئيس وزراء باكستان حتى وقت قريب، الذي لم تعجبه مطالبة الاتحاد الأوروبي لباكستان بالتصويت لصالح قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي ينتقد روسيا حيث قال: “هل نحن عبيدكم حتى نفعل ما تقولونه؟”.
وعلى الرغم من أن الهند وباكستان خاضتا عدة حروب ضد بعضهما البعض، إلّا أن مواقفهما بشأن حرب أوكرانيا متشابهة -مما يعكس عدم الرغبة في المخاطرة باستعداء روسيا- حيث تتمتع الهند بعلاقة وثيقة مع موسكو منذ منتصف الخمسينيات من القرن الماضي. على الرغم من أنها الآن أقل اعتماداً على الأسلحة الروسية ولديها علاقات اقتصادية وأمنية واسعة النطاق مع الولايات المتحدة، إلّا أن روسيا تظلّ أكبر مورّد عسكري لها، حيث تُمثّل ما يقرب من نصف واردات الدفاع الهندية. كما أن روسيا بدأت أيضاً بتوطيد علاقاتها مع باكستان. ففي تناقُض حادّ مع سياستها المتمحورة على دعمها للهند خلال الحرب الباردة، زوّدت موسكو باكستان بكمية محدودة من الأسلحة، ومنذ عام 2016، أجرت أيضاً تدريبات مشتركة مع الجيش الباكستاني. لا عجب إذاً إنْ رفض “خان” الانجراف إلى الانحياز إلى أحد جوانب الحرب في أوكرانيا، وأن خليفته شهباز شريف لم يغير مساره.
ثم هناك البرازيل، التي يعتمد اقتصادها البالغ 1.4 تريليون دولار -الأكبر في أمريكا اللاتينية- بشكل كبير على المبيعات الزراعية، والتي جعل الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو من أولوياته الترويج لها. ويُدرّ فول الصويا، أكبر صادرات البرازيل الزراعية، ما يقرب من 29 مليار دولار للبلاد. وتتطلب زراعة هذا المحصول سماداً، وتقوم البرازيل باستيراد 85 بالمائة مما تحتاجه، وتمثل روسيا 23 بالمائة من هذه الواردات.
والسؤال الحرج بالنسبة للبرازيل هو: هل ستنهي روسيا مبيعات الأسمدة إذا بدأت البرازيل في دعم العقوبات الغربية ضد موسكو؟ بولسونارو لا يريد أن يجرّب ذلك. ومع أن البرازيل صوتت بالفعل لصالح قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في الثاني من آذار/ مارس الذي يُدين روسيا إلا أن تفسير سفيرها للتصويت انتقد بشدة “التطبيق العشوائي للعقوبات” وشجب لجوء روسيا إلى الحرب.
الحكومات الموالية لروسيا -روسيا البيضاء وسورية، على سبيل المثال- لها أسبابها الخاصة لدعم الحرب الروسية في أوكرانيا، بما في ذلك اعتمادها الاقتصادي والعسكري شِبه الكامل على موسكو. لكن آخرين تجنّبوا إدانة روسيا علانية لسبب مختلف. فهم يعتقدون أن التنديد لن يغير سلوك روسيا، بل سيزيد من الاستقطاب الناتج عن الحرب، وبالتالي يقلّل من فرصة التوصّل إلى تسوية سياسية.
في حين أن مثل هذه التسوية ليست في الأُفق، فإن هذه الدول لا ترغب في تقويض احتمالات مفاوضات نهاية الحرب في وقت لاحق. وبالتالي، حتى عندما صوّتت المكسيك لصالح قرار 2 آذار/ مارس، فإنها تعارض العقوبات على أساس أن مثل هذه الإجراءات العقابية ستجعل استئناف الدبلوماسية أكثر صعوبة.
يفسر هذا المنطق أيضاً رفض إندونيسيا -الرئيس الحالي لمجموعة العشرين الاقتصادية- إلغاء دعوة بوتين لحضور قمة تشرين الثاني/ نوفمبر في بالي على الرغم من حثّ واشنطن، على الرغم من أن الرئيس جوكو ويدودو يدرك أن مشاركة بوتين يمكن أن تؤدي إلى مقاطعة غربية. مثل المكسيك صوّتت إندونيسيا لصالح قرار 2 آذار/ مارس لكنها تعتقد أن إستراتيجية عزل روسيا ستؤدي إلى نتائج عكسية.
في العام المقبل، ستترأس الهند مجموعة العشرين، ومن غير المرجح أن يغلق رئيس الوزراء ناريندرا مودي -الذي امتنعت بلاده عن التصويت على القرار- الباب أمام بوتين للأسباب نفسها.
وبالمثل على الرغم من رغبة الولايات المتحدة في استخدام لغة صارمة تُدين الغزو الروسي لأوكرانيا في قمة الولايات المتحدة ورابطة دول جنوب شرق آسيا التي عُقدت هذا الشهر في العاصمة الأمريكية واشنطن، لم يتضمن البيان المشترك الختامي سوى دعوة مهدئة لإنهاء القتال، وتقديم المساعدة الإنسانية لأوكرانيا، والتمسك بمبادئ “السيادة والاستقلال السياسي وسلامة الأراضي”. حيث لم يتم ذكر روسيا، كما لم يتم توبيخها. كما لم يكن أداء الولايات المتحدة أفضل في الاجتماع الذي يضم 21 دولة في منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ (APEC) الذي أعقب ذلك في بانكوك. وبينما كان وزير التنمية الاقتصادية الروسي يستعدّ لإلقاء كلمة أمام الاجتماع، انسحبت الممثلة التجارية الأمريكية كاثرين تاي التي انضم إليها مندوبون من أستراليا وكندا واليابان ونيوزيلندا، وبقي الحاضرون الآخرون في مكانهم.
لقد رفضت الدول المحورية في جنوب الكرة الأرضية الالتزام بخط واشنطن لسبب آخر: وهو التخوّف، وحتى الاستياء، من استخدام الولايات المتحدة لهيمنة الدولار لفرض عقوبات على البلدان بوتيرة متزايدة. بعض هذه الدول -بما في ذلك الهند وباكستان بعد تجاربهما النووية عام 1998 وتركيا بعد شرائها نظام الدفاع الصاروخي الروسي S-400- قد تعرضت للعقوبات الأمريكية نفسها.
لا يساعد أن تدافع واشنطن عن عقوباتها على أساس أنها ضرورية لمعاقبة الدول التي تهدد النظام العالمي القائم على القواعد. بالنسبة للكثير من دول جنوب الكرة الأرضية، يعتبر هذا الخط من الجدل نفاقاً بالنظر إلى تاريخ واشنطن في التخلّي عن هذه المبادئ نفسها عندما يكون ذلك مناسباً. ومن المفيد النظر إلى تدخُّل الناتو الفردي في كوسوفو عام 1999، والذي تم تنفيذه بدون قرار من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، كما كانت حرب العراق عام 2003 – حرباً وقائية لتغيير النظام تم إطلاقها على أساس الادعاء الكاذب بأن صدام حسين كان يطوّر أسلحة دمار شامل. أضف إلى ذلك أن التدخل في ليبيا عام 2011، والذي تجاوز بنود قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لعام 1973، تحوّل إلى حرب لتغيير النظام ضد الدكتاتور الليبي معمر القذافي، وخلّف فوضى سياسية، وساهم في تصاعُد الإرهاب عَبْر منطقة شمال إفريقيا.
هناك درس مهم يجب تعلّمه هنا: بالنسبة للعديد من البلدان خارج أمريكا الشمالية وأوروبا، يُعدّ اختيار الأطراف في مواجهة بين روسيا والغرب إستراتيجية خاسرة تفوق تكاليفها الفوائد بشكل كبير. علاوة على ذلك، لا يمكن للولايات المتحدة أن تتوقع منهم التضحية بمصالح مهمة للدفاع عن الأعراف العالمية التي تنحّيها واشنطن نفسها جانباً عندما ترى ذلك مناسباً. إن تصوير البلدان التي لم تحذُ حَذْو الغرب تجاه روسيا كمتعاطفين مع بوتين هو تصوير خاطئ.
ولكي نكون واضحين، فإن هجوم روسيا على أوكرانيا غير قانوني: فقد هاجم الكرملين دولة لا تشكل خطراً واضحاً وقائماً على الأمن القومي الروسي. والأسوأ من ذلك، أن روسيا قصفت بشكل عشوائي أهدافاً مدنية، وارتكب جنودها جرائم حرب. وبالتالي، يحقّ لأوكرانيا الدفاع عن استقلالها ويجب أن تُمنح الوسائل اللازمة للقيام بذلك.
ومع ذلك، لا ينبغي لنا أن نخدع أنفسنا بشأن المدى الذي سيذهب إليه بقية العالم في دعم أوكرانيا. لدى واشنطن عادة سيئة تتمثل في افتراض أنه بالقدر المناسب من الضغط أو التحفيز ستصطفّ الدول الأخرى في النهاية خلف الولايات المتحدة وهي تحاول حل مشكلة أو إدارة أزمة أو معاقبة المعتدي.
لكن السياسة الدولية هي قضية أكثر تعقيداً بكثير. حيث يعتمد شكل العالم إلى حدّ كبير على مكان وجود دولة معينة ومصالحها ومقدار هذه المصالح التي يمكن أن تضحّي بها بشكل معقول. هذا صحيح حتى في حالات، مثل هجوم روسيا على أوكرانيا، حيث يمكن تمييز الخطأ بسهولة. سيكون من الأفضل للولايات المتحدة أن تعيش في عالم من الواقع – مهما كان ذلك محبطاً – بدلاً من عالم من التخيّل، الذي تتّبع فيه البلدان الأخرى بشكل موثوق قيادة صناع السياسة الأمريكيين. وإلا فإن الولايات المتحدة ستعرّض نفسها لخيبة الأمل والإحباط وربما الفشل.
“نداء بوست”