المصدر: تي. آر. تي. ورلد
ترجمة: عبد الحميد فحّام
بقلم: كيريل سيمينوف (خبير في مجلس الشؤون الدولية الروسي وكاتب عمود في المونيتور).
لطالما اعتبر الكثير في الغرب جمهورية إيران الإسلامية حليفاً لروسيا، ولكنّ الواقع أكثر تعقيداً بكثير.
من الأفضل وصف العلاقات بين روسيا وإيران بأنها “زواج مصلحة” – إن لم يكن حتى “شراكة تنافُسية”، إنهم يفتقرون إلى العمق الإستراتيجي والأُسس الأيديولوجية المُشتركة المُفترضة التي تدعم علاقاتهما الآنية.
يقتصر المجال السياسي العسكري للتعاون بين موسكو وطهران اليوم على الملف السوري، ولا تتجاوز التجارة المتبادلة 4 مليارات دولار (مقارنة بـ 25 مليار دولار من التجارة بين روسيا وتركيا).
الجذور التاريخية
تشهد العلاقات بين موسكو وطهران بكل تأكيد نهضة مُعيّنة، لكن العلاقات بينهما شهِدَت صُعوداً وهبوطاً على مدى عقود. فحتى عهد الشاه محمد رضا بهلوي، كان هناك العديد من الحروب الروسية الفارسية والتدخُّلات السوفياتية في إيران، مما ألقى بظلاله على العلاقات الناشئة بين البلدين.
وعلى الرغم من أن الشاه كان يُعتبر حليفاً وثيقاً للولايات المتحدة، إلّا أنه كان على اتّصال وثيق بالاتحاد السوفياتي. ففي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، بنى الاتحاد السوفياتي مصانع وخطوط أنابيب غاز في إيران وزوّد الجيش الإيراني بأسلحة حديثة، مما جعل هذه الفترة الأفضل في العلاقات الروسية الإيرانية. وقد انتهى التعاون السوفياتي الإيراني بشكل مُفاجئ مع الثورة الإسلامية عام 1979 في إيران.
وعندما وصل آية الله الخميني إلى السلطة بعد ذلك، وصف الاتحاد السوفيتي بـ “الشيطان الصغير” (كان “الشيطان الأكبر” هو الولايات المتحدة) وبدأ في دعم المجاهدين الذين كانوا يقاتلون ضد القوات السوفياتية في أفغانستان.
وفي لبنان، كان زعيم حزب الله الموالي لإيران عماد مغنية وراء اختطاف دبلوماسيين سوفيات وقتل أحدهم عام 1985.
إن العلاقات السوفياتية الإيرانية لم تبدأ في التطبيع حتى عام 1989 واستمرّت في التحسّن في روسيا في عهد يلتسين. ومع ذلك، كان جوهر هذا التعاون يتعلّق بالمعاملات والعلاقات المصلحية البحتة، حيث أرادت إيران شراء أحدث الأسلحة السوفياتية/الروسية، وسعى الاتحاد السوفياتي ثم روسيا للحصول على مليارات الدولارات من المبيعات لإيران.
في الآونة الأخيرة، نظر الكثير في إيران إلى روسيا كدولة معادية أثناء استخدام الأخيرة لقاعدة همدان الجوية في إيران لضرب مواقع “داعش” في عام 2016. وتسبب نشر روسيا لهذه المعلومات في إثارة ضجة بين الإيرانيين، الذين شعروا أن استخدام روسيا للقاعدة كرّر التدخل السوفياتي بين 1941 و 1945. ونتيجة لذلك، ألغت طهران صفقة استخدام منشأة الطيران العسكري الروسي.
أساس الشراكة
كان من المحتمل أن تظلّ إيران الشريك الثانوي لروسيا في الشرق الأوسط لولا الانتفاضات العربية والثورة السورية، مما أدّى إلى تقارُب سياسي عسكري تدريجي بين الطرفين.
وقد كانت العلاقات بين طهران ودمشق أعمق بكثير من العلاقات بين موسكو ودمشق. فكانت سورية عُنصراً مُهمّاً في “محور المقاومة” الذي له مكوّن عقائدي وحتى ديني وروحي، إذ يُفترض أن يُرسي “الأرضية الدولية والإقليمية” لضمان ظهور الإمام الشيعي المُنتظر الثاني عشر.
بطبيعة الحال، لم تشارك روسيا مثل هذه المواقف، وكان تعاوُنها مع إيران -ونظام الأسد- في سورية عملياً بحتاً. فعلى الرغم من أن كلتيهما تدعم نظام الأسد، إلّا أن التوتّرات بدأت بمجرّد تورُّط موسكو في سورية.
كانت لدى الدولتين رُؤى متناقضة: فقد كانت موسكو مُهتمّة بتطبيع العلاقات بين سورية وجيرانها، باستخدام البلاد كنقطة انطلاق لدخول “اللعبة الكبيرة” في الشرق الأوسط، بينما حاولت إيران تحويل البلاد إلى نقطة انطلاق عسكرية لشنّ هجمات على سورية وجيرانها من الدول العربية الأخرى.
في البداية، بدت هذه الاختلافات أكثر تقنية، خاصة فيما يتعلّق، على سبيل المثال، بمسألة كيفية تنفيذ الاتفاقات مع المعارضة السورية بشأن وقف الأعمال العدائية. في ذلك الوقت، سعت روسيا إلى نهج أكثر اعتدالاً نسبياً مقارنةً بإيران والنظام السوري. فعلى سبيل المثال، جلبت مسلمين سُنّة وشرطة عسكرية شيشانية إلى حلب بعد أن استولى النظام على المدينة، جزئياً لمنع المذابح ضد السكان السُّنّة على أيدي الميليشيات الشيعية الموالية لإيران.
وفي مناطق أخرى، مثل وادي بردى، وقعت حوادث بين الشرطة العسكرية الروسية والميليشيات الموالية لإيران.
وقد بدأت هيمنة طهران على الاقتصاد السوري أيضاً تجعل موسكو مُستاءة؛ لأن القليل جداً من المجالات التجارية تُركت للأثرياء الروس.
على الرغم من أنه كان من المُربح إلى حدٍّ ما أن يُبرِم نظام الأسد عقوداً مع الشركات الروسية، إلّا أن إيران احتفظت بنفوذها من خلال القنوات الرسمية باعتبارها الراعي الرئيسي للنظام والشريك التجاري والمورد للمنتجات النفطية. أما القنوات غير الرسمية فكانت عبارة عن مسلّحين موالين لإيران يعزّزون سياسات طهران.
وفي النهاية، وصلت التوترات الروسية الإيرانية إلى مستوى جديد في عام 2018 بعد أن بدأت إسرائيل ووحدة عسكرية أمريكية متمركزة في سورية بضرب التشكيلات الموالية لإيران في البلاد. ورافق ذلك خطر اندلاع صدام عسكري مباشر بين إيران والولايات المتحدة وإسرائيل، وهو ما أرادت موسكو تجنُّبه.
أما في جنوب سورية، فوصلت التشكيلات الإيرانية إلى الحدود الإسرائيلية والأردنية بعد حملة عسكرية في عام 2018. وبناءً على اتفاقات مع واشنطن وتل أبيب، منعت موسكو طهران من إقامة أماكن تساعدها على الاستقرار في درعا والقنيطرة.
كما حاولت روسيا أيضاً الحدّ من التمدّد الإيراني في شمال شرق سورية بالقرب من الحدود مع العراق، بين مدينتَي الميادين والبوكمال، حيث تمّ تشكيل جيب خاضع لسيطرة إيران بشكل فعّال، مما يزيد من خطر الاشتباك مع القوات الأمريكية على الضفّة الأخرى لنهر الفرات.
ولكن بالنظر إلى موقف إسرائيل المؤيد لأوكرانيا والمساعدات العسكرية الأمريكية لكييف، فإن موسكو قد تُعيد النظر في هذا النهج.
من ناحية أخرى، تهتم روسيا بالحفاظ على علاقات ودّية مع الملَكيّات العربية في الخليج العربي والأردن، الأمر الذي يُشكّل أيضاً تهديداً لتعزيز مكانة إيران في سورية. لذلك، قد تواصل روسيا سياستها في كبح جماح الطموحات الإيرانية مع مراقبة الدول العربية بدلاً من الولايات المتحدة وإسرائيل.
مجال جديد للمنافسة
ومع ذلك فإن التناقضات بين روسيا وإيران تتدحرج تدريجياً إلى ما هو أبعد من الملف السوري وقد تمتدّ إلى فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي، لا سيما في آسيا الوسطى وجنوب القوقاز.
فلقد أصبحت إيران أكثر نشاطاً في سياستها تجاه القوقاز بعد الحرب الأرمينية الأذربيجانية عندما اعتبرت القيادة الأرمينية أن المساعدة الروسية في حربها مع أذربيجان غير كافية. فبدلاً من زيادة دعمها العسكري ليريفان، أبرمت روسيا اتفاقية تحالُف مع أذربيجان.
وتحاول إيران الآن الضغط على أذربيجان من خلال إجراء مناورات عسكرية تحت ذريعة العلاقات العسكرية المزعومة بين باكو وتل أبيب وتقديم نفسها كشريك أكثر موثوقية ليريفان من موسكو.
في طاجيكستان، تحاول إيران التنافس مع موسكو في القضايا الأمنية. كما تحاول موسكو تطوير حوار بنّاء مع طالبان على الرغم من تردُّد دوشانبي بشأن الحكومة الجديدة في كابول. وفي الوقت نفسه، عرضت طهران بالفعل على دوشانبي أشكالاً جديدة من التفاعل في المجال العسكري، بما في ذلك افتتاح مصنع جديد لإنتاج طائرات بدون طيار إيرانية الصنع.
وعلى خلفية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، حيث تستخدم موسكو مواردها بسرعة، قد يشعر حلفاء روسيا في آسيا الوسطى والقوقاز بعدم الأمان على نحو متزايد. لذلك، أمام إيران فرصة لملء هذا الفراغ الأمنيّ.
“نداء بوست”