شاهد مراقب السفينة الهندية يوم السابع من أيلول/ سبتمبر عام 1965 شيئا مريبا في الأفق لم يبشر خيرا، فثلاثة سفن أجنبية تتجه نحوالسفينة بسرعة واضحة. وكانت تلك السفن بقيادة القرصان الشهير هنري أيفري Henry Every الذي كان طامعا بحمولة السفينة الهندية التي كانت الأكبر والأقوى في الأسطول الهندي في عهد امبراطور الهند المغولي «أوراجزب». وكانت محملة بأثمن حمولة في العالم من أموال وذهب وبضائع ثمينة.
أما الركاب الستمئة، فكان أغلبهم من بعض أشهر العوائل الهندية، بالإضافة إلى بعض النساء العبيد.
لم تكن السلطات الهندية تجهل أهمية هذه الحمولة بالنسبة للقراصنة، ولذلك كانت السفينة الهندية الأقوى في الهند، بمدافعها الثمانين مختلفة الحجم وأربعمئة جندي مسلحين بالبنادق، في حين لم تملك سفينة القراصنة الرئيسية سوى ستة وأربعين مدفعا. لكن الحظ ومهارة القرصان لعبا الدور الأساسي في هذا الحدث المأساوي، فما أن أطلق القراصنة أولى قنابلهم بالمدافع حتى أصابت إحداها الصاري الرئيسي للسفينة الهندية وأسقطته، ما جردها من أي إمكانية للحركة أمام سفن القراصنة التي أصبحت حرة في اتخاذ أفضل المواقع لشن هجماتها بسهولة، وما زاد الطين بلة انفجار أحد مدافعها الرئيسية، ما أدى إلى خسائر بشرية كبيرة وأضرار خطيرة بالسفينة. ومع ذلك لم يستسلم الهنود، فعلى الرغم من كل هذا واصلوا القتال في معركة مرعبة دامت حوالي ثلاث ساعات، كانت نهايتها سيطرة القراصنة الكاملة على السفينة.
لكن هذا لم يكن نهاية المأساة، إذ قام القراصنة بتجريد الرجال من ملابسهم ثم اغتصاب كل النساء على المركب، بغض النظر عن عمرهن، حتى أن بعض النسوة رمين أنفسهن في البحر أو انتحرن بالخناجر، كي لا يتعرضن للاغتصاب أمام أزواجهن. وقام القراصنة بتعذيب الجميع بشكل بشع لعدة أيام لاسيما النسوة لإجبارهن على البوح عن أماكن أموالهن على متن السفينة، وتخلل ذلك رمي الكثيرين من الضحايا في البحر. وبعد عدة أيام ترك القراصنة السفينة المتضررة التي أكملت رحلتها إلى هدفها النهائي الذي كان قريبا، وهو مدينة سورات الهندية.
كانت قيمة الحمولة المنهوبة مابين 325.000 و600.000 جنيه إسترليني، واعتبر المؤرخون هذه السرقة الأكبر في التاريخ، إذا أخذنا بنظر الاعتبار المعايير في تلك الفترة، فالمرتب الشهري للحاكم البريطاني لمستعمرة الباهاماز آنذاك كان 25 جنيها فقط، وكان مبلغ 1000 جنيه إسترليني كافيا لشراء سفينة. وكان رد فعل امبراطور الهند سريعا، حيث حمّل بريطانيا المسؤولية، وقام باعتقال العديد من التجار والموظفين البريطانيين وتوفي البعض منهم نتيجة لسوء ظروف الاعتقال، ولذلك قامت الحكومة البريطانية بإصدار الأمر باعتقال القراصنة، خاصة زعيمهم القرصان الشهير، وخصصت مبلغ 1000 جنيه إسترليني لمن يعطي معلومات تؤدي إلى القبض على كل واحد منهم. ووعدت شركة الهند الشرقية، التي كانت تحتكر التجارة مع الهند بتعويض الهند بشكل كامل. لكن القرصان الشهير اختفى تماما ولا أحد يعرف ما حل به. لكن السلطات البريطانية نجحت في القبض على بعض البحارة الذين شاركوا في تلك السرقة، وتم إعدام خمسة منهم. وعثر على عملات نقدية كانت قد سرقت من السفينة الهندية في الولايات المتحدة الأمريكية في القرن العشرين، إذ من المعروف أن بعض البحارة المشتركين في تلك المأساة هربوا إلى الولايات المتحدة، التي كانت جزءا من الامبراطورية البريطانية آنذاك.
سرعان ما تحول هذا القرصان المتوحش إلى شخصية مثيرة للإعجاب بين عامة الناس ونشرت قصة عنه عام 1709 نالت رواجا في بريطانيا وحوت على الكثير من التفاصيل الخرافية، مثل وجود ابنة أمبراطور الهند على متن السفينة ووقوعها في حب القرصان، الذي قتل واغتصب النساء الهنديات، فور لقائهما ثم هروبهما معا إلى جزيرة مجهولة، حيث أسس جمهورية فيها ما حول هذا القرصان إلى بطل شعبي. وبعد ذلك عرضت مسرحية عنه عام 1712 نالت نجاحا كبيرا، محولة أياه إلى شخصية أسطورية وضخمت من سرقاته وإنجازاته. وزادت القصص عنه حتى نشر كتاب «التاريخ العام للقراصنة» A General History of the Pyrates (كانت كلمة القراصنة باللغة الإنكليزية تكتب بطريقة مختلفة آنذاك) عام 1724، الذي ذكر قصصا عن ذلك القرصان وعدة قراصنة شهيرين آخرين. وأصبح ذلك الكتاب مرجعا لكل المهتمين بتاريخ القراصنة، وبذلك تحول قرصان شهير عرف بوحشيته إلى شخصية فولكلورية يستشهد بها الناس، وشمل هذا التحول نظرة الناس تجاه مهنة القرصنة بشكل عام.
ازداد مفهوم القراصنة ضخامة وسحرا في الفكر الشعبي، عندما نشر الكاتب الأسكتلندي روبرت لويس ستيفنسن Robert Louis Stevenson مؤلف رواية «الدكتور جيكل والسيد هايد» رواية «جزيرة الكنز» Treasure Island عام 1883 التي شكلت المفهوم المتعارف عليه حاليا في الأدب والأفلام السينمائية عن القراصنة بالنسبة لأشكالهم وتصرفاتهم ولغتهم وعاداتهم مهما كان ذلك بعيدا عن الواقع.
القراصنة في السينما
مع بداية القرن العشرين ظهرت صناعة السينما التي تبنت شخصية القرصان كشخصية محبوبة ومرحة تعشقها النساء، ويعجب بها الجميع. وقد اشتهر البعض منها مثل «القرصان الأسود» The Black Pirot (1926) الذي كان بطله الممثل دوغلاس فيربانكس Douglas Fairbanks في دور القرصان الطيب الذي كان في الحقيقة (دوق) أي من كبار النبلاء البريطانيين، يحارب القراصنة الأشرار وتعشقه بالطبع فتاة جميلة من الأميرات. وبعد ذلك دخل هذا المضمار الممثلان أيرول فلين Errol Flynn وأوليفيا دي هافيلاند Olivia de Haviland اللذان اشتهرا في فيلم «الكابتن بلود» Captain Blood (1935) عن القراصنة، المأخوذ عن رواية نالت نجاحا كبيرا للكاتب رافاييل ساباتيني، نشرت عام 1922.
نرى في فيلم «الكابتن بلود» الرجل المتعلم الذي يسعى إلى الخير، لكنه في الوقت نفسه قرصان، وقد نجح الفيلم إلى درجة أن الممثلين اشتركا في سبعة أفلام ناجحة بعد ذلك، كان أشهرها «روبن هوود» Robin Hood (1938) الذي لم يكن مختلفا عن القراصنة في السينما، ثم قام ابن الممثل أيرول فلين بتمثيل فيلم «ابن الكابتن بلود» عام 1962. أما الممثل روبرت دي نيرو Robert De Niro، فقدم شخصية القرصان الأكثر أناقة ووطنية وأدبا في فيلم «غبار نجمي» Stardust (2007). ومن الجدير بالذكر أن أفلام سينمائية نادرة حاولت الكشف عن الحقيقة البشعة للقراصنة مثل «حانة جامايكا» Jamaica Inn (1939) و«الكابتن كد» Captain Kidd اللذين كانا من بطولة الممثل البريطاني تشارلز لوتن.
قد تكون أشهر أفلام القراصنة شعبية سلسلة أفلام «قراصنة البحر الكاريبي» Pirates of the Caribbean التي بدأت عام 2003 وكانت من بطولة الممثل الأمريكي جوني ديب Johnny Depp الذي قدم نسخة فكاهية عن حياة وأعمال القراصنة. لكن أشكال القراصنة في هذه السلسلة اعتمدت على أشهر فيلم عنهم في خمسينيات القرن العشرين، ألا وهو فيلم «جزيرة الكنز» Treasure island (1950) الذي كان من بطولة الممثل البريطاني روبرت نيوتن Robert Newton. وحقق كل من الفيلم والممثل شهرة واسعة، وأصبحت شخصية القرصان التي قدمها ذلك الممثل نموذجا قلده أغلب من مثل القرصان بعد ذلك. وأخذ الجمهور بسبب هذا الفيلم يشاهد قرصانا غريبا، فهو ساخر وأعور وفاقد لساقه ويتكلم بطريقة غريبة ويمتلك ببغاء ملونا. وكان أغلب هذا مأخوذا من رواية روبرت لويس ستيفنسن. ولم يستمتع هذا الممثل البريطاني بهذه الشهرة المتأخرة، حيث توفي عام 1956 بسبب إدمانه على الكحول.
القراصنة في الواقع
كان أول ذكر للقرصنة في القرن الرابع عشر قبل الميلاد في منطقة بحر أيجة، واشتركت فيها كل الشعوب في العالم بدرجات مختلفة، لكن الأشهر في التاريخ كان الفايكنغ الذين سيطروا على هذه المهنة من القرن الثامن وحتى القرن الثاني عشر، واصبحوا الأشهر في تجارة العبيد. كانت أغلب أفلام القراصنة عن هؤلاء الذين نشطوا في منطقة البحر الكاريبي. ومن الناحية التاريخية، فإن نشاط القراصنة الحقيقيين في تلك المنطقة لم يدم طويلا، حيث بدأ عام 1655 وبدأ بالأفول عام 1717 حتى انتهى عام 1730. وكان سبب بروزهم بداية ظهور المستعمرات الأوروبية في الأمريكتين وعودة السفن التجارية بالحمولات الثمينة إلى أوروبا، وكانت أكثر هذه السفن إسبانية، لكون إسبانيا أكثر من امتلك مستعمرات في أمريكا اللاتينية. وبسبب عدم وجود أساطيل أوروبية كثيرة في تلك المنطقة، أصبحت تلك السفن صيدا سهلا نسبيا للقراصنة.
كانت مهنة القرصان الحكومي منتشرة ومهمة، إلى درجة أن بعض حكام المستعمرات كانوا في السابق في ذلك المجال مثل هنري مورغان. ودخل في مهنة «القرصان الحكومي» النبيل البريطاني فرانسيس دريك قبل أن يصبح أحد قادة الأسطول البريطاني.
وأرادت فرنسا وبريطانيا استغلال الموقف، فاستولت فرنسا على جزيرة تورتوغوا، بينما استولت بريطانيا على جزيرة جامايكا من إسبانيا. وقام حكام هاتين الجزيرتين بتوظيف القراصنة لمهاجمة السفن الإسبانية التجارية. لكن الأمر ازداد عندما اندلعت الحرب بين فرنسا وبريطانيا، حيث وجه كل جانب قراصنته ضد الآخر عام 1655 ووصلت القرصنة إلى أوجها، لكن بريطانيا كانت الجانب الأقوى بكثير. ويدعى هؤلاء القراصنة في اللغة الإنكليزية Privateers ولنسميه «القرصان الحكومي». واتفاق هذا القرصان مع الحكومة تجاري بحت، ويجدر ذكر بعض التفاصيل حيث يصدر حاكم المستعمرة رسالة رسمية يفوض فيها القرصان بمهاجمة سفن تابعة لدولة معادية لدولة ذلك الحاكم ولفترة محددة، تنتهي بانتهاء العداء بين الدولتين، حيث لا يسمح للقرصان بالقيام بأي نشاط حينئذ، وأية مخالفة لهذا ستؤدي إلى إعدام القرصان. ومقابل ذلك يتعهد القرصان بإعطاء الدولة المانحة للتفويض نسبة محددة من الغنائم مع ضمانة مالية لحسن الأداء. وكانت بريطانيا الأكثر نجاحا في هذا المجال، فكان أغلب القراصنة الحكوميين وغير الحكوميين من المناطق الناطقة باللغة الإنكليزية. لكن نسبة واضحة من بحارة القراصنة كانوا غير أوروبيين، بل من أصول افريقية وأمريكية (هنود حمر) حتى أن جميع من كان على متن سفينتين للقراصنة من أصول افريقية. وكان معدل أعمار هؤلاء البحارة، السابعة والعشرين، أي لم يكن هناك كبار في السن بينهم، فقد كانت هذه المهنة للأقوياء جسديا. أما القرصان الفاقد لساق أو يد، فكان شيئا نادرا جدا، على الرغم من أنه لم يكن مستحيلا، لكن ذلك البحار المعاق كان يستلم أحيانا تعويضا ويستمر في العمل في السفينة في وظيفة غير قتالية مثل وظيفة طباخ، وهي مهنة مهمة بالنسبة لهم. وكان أغلب البحارة أصلا بحارة عاطلين عن العمل أو بحارة عاملين على متن سفن استولى عليها القراصنة أوعبيدا هربوا من مالكيهم.
تنوعت أنواع الغنائم التي كان القراصنة يجدونها ثمينة، وأولها العبيد، الذين كانوا أقدم من تاجر بهم القراصنة على مدى التاريخ، وكذلك النقود والأقمشة، والذهب والفضة والأسلحة والبهارات، لأن بيع هذه الأشياء كان سهلا، بالإضافة إلى كل ما تحتاج إليه سفن القراصنة نفسها مثل الحبال والمعدات. لكن بعض أهم ما كان يسعى إليه القراصنة هو الخرائط، وكذلك المعدات الطبية، حيث كان هناك دائما أحد البحارة ذو خبرة طبية بدائية لتولي مهام الطبيب على السفينة، على الرغم من أن بتر ساق أو يد كان بمثابة الانتحار بسبب الالتهابات وفقدان الدم. وكانت الحالات الطارئة الطبية من الأهمية بمكان أن القراصنة كانوا أحيانا يخطفون الأطباء ويبقونهم على السفينة.
كانت مهنة القرصان الحكومي منتشرة ومهمة، إلى درجة أن بعض حكام المستعمرات كانوا في السابق في ذلك المجال مثل هنري مورغان. ودخل في مهنة «القرصان الحكومي» النبيل البريطاني فرانسيس دريك قبل أن يصبح أحد قادة الأسطول البريطاني.
من اختلافات قراصنة السينما عن القراصنة الحقيقيين، أن الحقيقيين كانوا يفضلون السلاح الناري في القتال، ولم يحملوا السيف الطويل الذي يظهر في الأفلام، بل كان سيفهم قصيرا. وكان الانضباط على متن السفينة مشكلة كبيرة، فالإدمان على الكحول والمشاجرات المستمرة واحتمال الثورة على القائد كانت دائما تعيق عملهم حتى إن بعض قادتهم الأقوياء كانوا يهددون باللجوء إلى الإعدام في حالة وقوع شجار بين البحارة. وامتاز القراصنة بقسوة بالغة إلى درجة السادية، فمثلا قام بحارة إحدى السفن بالإطاحة بقائدهم لرفضه السماح لهم بتعذيب الأسرى. وقام قرصان شهير بإعدام جميع بحارة سفينة استولى عليها لأنهم رموا الحمولة بأكملها في البحر قبيل استيلاء القراصنة عليها.
باحث ومؤرخ من العراق
“القدس العربي”