في كل أزمة ينقسم رجال الحكم بين فريقين أحدهما يؤيد الحرب والآخر يختار السلام، لكن الحلول التي يقدّمها هؤلاء تبدو هزيلة قياسا بخطورة الأمور. وإذا نذرت سلسلة من العقول العظيمة نفسها لتمجيد فكرة السلام، فلا بدّ أن نجد آخرين ينذرون أنفُسَهم لإضعاف هذه الفكرة وتشويهها وإفراغها من كلّ نسغ، وتعلو في الأخير كفّة الحرب. إنّ الخطاب حول لا جدوى الحرب صعب، لأنّه يدفع إلى الاعتقاد بأن صاحبه ينحاز إلى الظّلم الذي نحاول الوقاية منه، وكلّنا نرى العدل والظلم من زاوية نظر مختلفة، ولا توجد خطوط فاصلة وقاطعة بين ما نحسبه عدلا أو ظلما، وما يراه أعداؤنا.
عندما يبدأ القتال في الجبهات تستعمل الجيوش كلّ ما في حوزتها في سبيل تبرير أعمالها، بما في ذلك اللّغة، فقد أعلن الأمريكيون منذ سنين تطويرهم نوعا من السّلاح يُدعى (القنبلة الذّكية) وميزتها أنها تدمّر العدوّ دون أن تقتله. هذا الكلام يصحّ في الدعاية والصّحافة وفي مجلس الأمن. أما الواقع فقد تمّ قصف ملجأ العامرية بقنبلتين ذكيّتين قتلت مئات الناس الأبرياء، ولا يمكن تصوّر الوضع لو أنهم أرسلوا قنابل غبيّة إلى المكان.
وهناك الحرب التي تعلنها السلطة على الشاعر، ولا تمسّ أحدا من الناس غيره، تحصي الشرطة عليه خطواته وتدوّنها، وتراقب أنفاسه وتحبسه أخيرا في بيته. أغنية روسية: «طريق واحدة لديّ / من النافذة إلى العتبة». لخصّت الشاعرة آنّا أخماتوفا حياتها تحت ظلال حراب القمع الستاليني بهذه الكلمات: «يمرّ اليوم بعد اليوم/ ويجري هذا أو ذاك من الأمور/ وأنا كالمعتاد/ تتراءى الوحدة لي خلال كلّ شيء/ وتُشَمُّ رائحةُ تعفّنٍ/ تعفّن التّبغِ والفأر والصّندوق المنفتح/ ويتجمّع الضّبابُ مسمّما». هل حاربت السّلطة شاعرتنا لأنّها أوكرانيّة الأصل؟ لا أحد بإمكانه البتّ في الأمر، لكنني أعتقد أن نظرية «أثر الفراشة» تصحّ في الطّبيعة وفي العلاقات بين الأفراد في ما بينهم، وبينهم وبين المؤسسة الحاكمة. كتبت الشاعرة قصيدة عنوانها «كييف» تصف فيها حدائق مدينتها المظلمة، حيث ضجيج الزّيزفون والدّردار:
«كأنما قد أقفرت هذه المدينة القديمة
غريبا كان وصولي إليها
فوق نهرها يرفع تمثال فلاديمير
صليبه الأسود»
وفلاديمير هو الدّوق الأكبر فلاديمير كيفسكي أمير دولة روس كييف القديمة، ويلقّب بالشمس الحمراء، وهو الذي نقل المسيحية إلى روسيا حوالي عام 988 ميلادية. قبل هذا التاريخ لم تكن هنالك دولة اسمها روسيا، بل قبائل سلافيّة بربرية تقوم ديانتها على عبادة الأوثان وتمزّقها الحروب الداخلية. زار مدينة موسكو رحّالة فرنسيّ (قرأتُ الرّحلةَ منذ شهور وفقدتُ أثر الكتاب في الوقت الحاضر، لكن المشهد الذي ذكره الرحّالة لا يمّحي من الذاكرة) وحلّ ضيفا في بيت تاجر موسكوفيّ، ومما نقله عن هؤلاء القوم أنهم يقضون حاجتهم جميعا في حوض واحد، يبدأ به ربّ البيت، ثم يأتي دور الابن الأكبر، ولا يرمون القذر بعد الانتهاء، ويأتي الحوضَ نفسَه بقيّة أفراد العائلة. يذكر جيمس فريزر في كتابه «الفولكلور في العهد القديم» عن الأقوام البدائيّة أنّهم «لم يتركوا حيوانا أو نباتا أو حشرة أو مادة من الموجودات لم يعبدوها» وعندما نتأمّل المشهد الذي وصفه الرحّالة المذكور نشكّ في أن القذر كان مما يعبده القوم الذين تنتمي إليهم عائلة التّاجر. لكن التفسير المنطقي يمكن أن يذهب إلى اضطرار العائلة الموسكوفية إلى هذا السلوك نتيجة شحّ الماء في الشتاء الرّوسيّ الثّلجيّ الصعب. على أيّ حال، كلا التفسيرين يدلان على جلافة الحياة في تلك البلاد، ووحشية سكانها قبل ألف سنة من الآن.
أدخل الأمير فلاديمير كيفسكي المسيحيّة الأرثوذوكسية إلى البلاد بغرض تخليصها من أنواع العبادات التي كانت تؤدي بالقبائل السلافية إلى التقاتل في ما بينها، وكان يريد جمعها في دين واحد كي تتّحد وتقوى. وبطبيعة الحال، فإن معمودية الروس لم تمرّ دون ألم للشّعب، فقد استعمل الأمير القسوة المفرطة في سبيل تحقيق ذلك، فكانت قوّاته تأتي بالجماهير إلى النّهر للتّعميد، ومن يرفض يُقتَل ويُلقى جثمانه فيه. لقّبوه بالشّمس الحمراء لأنه أظهر الحقّ مثل الشّمس، فيما يزعمون، ولأن أولاده كانوا يدورون مثل النّجوم حوله، لكنه ما إن فارق الحياة حتى نشبت المعارك بين الإخوة، وعادت البلاد مقسّمة ضعيفة. انتهت الديانة المسيحية بمجيء الشيوعيين إلى الحكم في بداية القرن الماضي، وعادت من جديد بعد سقوط الكيان السوفييتي. وفي عام 2015، وبمناسبة مرور 1000 عام على وفاة الأمير فلاديمير، أحصت السلطات الروسية أعداد الذين يدينون بالمسيحية، وبلغوا أكثر من 58 مليون روسيّ، وارتفع في ذلك العام تمثال الأمير فلاديمير في ساحة بوروفيتسكابيا قبالة مبنى جامعة موسكو، وكان من عمل فنان الشّعب الروسي سالافات شيرباكوف الذي سبق له أن قام بنحت تمثال مصمّم المركبات الفضائية الروسية سيرغي كوروليوف، وتأسّست جمعية لجمع التبرّعات الخاصة بتصميم ونصب تمثال الأمير فلاديمير، وبلغت التّكلفة 100 مليون روبل.
ينظر الإنسان الشرقي إلى الآخر باعتباره شخصا مختلفا إذا كان يدين بغير ديانته، أو مختلفا في شكله أو معتقده، بينما يذوب الآخر في صفّ الجميع في الوحدة العلمانية التي تشيع مفاهيمها في الغرب. (الآخر هو من يحدّدنا) يقول المفكّر والأديب الإيطالي أمبرتو إيكو، إن وحدة المجتمع تقوم على المتعدد في الوجود والمظاهر والاعتقاد.
تتشابه جميع الدّول التي تقف مع الرّئيس الرّوسي بوتين في حربه الجارية مع أوكرانيا في أمور عدّة، فهي تقع جميعا في الشّرق، وتديرها أنظمة لا تقيم وزنا للمبادئ اللّيبرالية التي تحكم عالم الغرب، وتسود المجتمعات فيها نظرة مختلفة في ما يتعلّق بموضوع الدين؛ المسيحيّة الأرثوذوكسية في روسيا، والبوذيّة في الصّين وكوريا الشّمالية، والإسلام في إيران والبلدان العربية التي تؤيّد الرئيس الروسي سرّا وعلانية. هنالك قربى ثقافية (فلسفية) تجمع بين هذه الأمم، في ما يخص القضايا الجندرية والجنسية، كما أن نظام العائلة بقي محافظا على شكله القديم في هذه البلدان، ولا يوجد ما يمكن أن ندعوه بالتفكّك الأسري وحرية المعتقد، إلى آخر ما يسود من صرعات تحرّرية في الدول التي تقف في جبهة الغرب، ليست النظرة المحايدة إلى المثلية الجنسية أخيرها. لقد تمّ استبدال الأيديولوجيا، المحرّك الرئيسي للعداوة بين المعسكرين الشرقي والغربي طوال القرن الماضي، بالقيم السائدة في البلدان المتحاربة، وهذه تشمل طريقة العيش وأفكار الساسة وما يسكن عقول الشّعب من عقائد وخرافات، وغير ذلك، وهي تحمل حتما طابع البيئة التي تنشأ وتسود فيها.
ينظر الإنسان الشرقي إلى الآخر باعتباره شخصا مختلفا إذا كان يدين بغير ديانته، أو مختلفا في شكله أو معتقده، بينما يذوب الآخر في صفّ الجميع في الوحدة العلمانية التي تشيع مفاهيمها في الغرب. (الآخر هو من يحدّدنا) يقول المفكّر والأديب الإيطالي أمبرتو إيكو، إن وحدة المجتمع تقوم على المتعدد في الوجود والمظاهر والاعتقاد. وتعيش الأمم الشرقية وحدها وتعتزّ بهذه الوحدة وتتفاخر. يؤكد الفيلسوف ليفي شتراوس على أنه (لا شيء مثير للحزن أكثر من شعور أمة بوحدتها) وعلى هذا الأساس فتحت دول الغرب أبوابها للمهاجرين من كل القارات، فهؤلاء الوافدون يجلبون معهم، بالإضافة إلى فقرهم وجهلهم وتخلّفهم، أهمّ ركائز المجتمع المتطوّر، وسرّ أسرار قوّته، وهو الاختلاف. الحرب الدائرة إذن بين الطرفين، الروسي والأوكراني، أو البوتيني والبايدني، هي قيَمية، لا أحد يريد من الاثنين أن يتخلّى عن ثقافته، وطريقة كسر العظم هي الحلّ. كم يبدو الأمس البعيد قريبا في هذه الأيام، في القرن الثاني قبل الميلاد صرخ ماركوس بورسيوس كاتو في مجلس الشّيوخ الروماني: «يجب تدميرُ قرطاجةَ. لا ينبغي التّصالح مع الحضارة الأخرى». إن الزّمان يدور دورته الكبرى، ولا يعنينا اليوم الاختلاف الحضاري بين روما وقرطاجة، وإنّما همّنا معرفة ما أدعوه بفرق الجهد الحضاري بين الشرق والغرب، ومعلوم من الفيزياء أن فرق الجهد بين شحنتين غير متكافئتين يولّد قوة دافعة كهربائيّة تتحوّل إلى حرارة هائلة، وعندما يجري الحدث بين دولتين تشعل هذه الحرارة فتيل الحرب. ويمكن أن يحدث فرق الجهد هذا بين أيّ دولتين متجاورتين أو متباعدتين، وهذا ما يفسّر دوام نشوب الحروب منذ فجر التّاريخ بين الأمم. هل تلقي هذه السّطور شيئا من الضّوء على الماضي، ويحقّ لنا القول إن جميع الحروب هي نتيجة فرق جهد حضاريّ، أي أنها قِيَميّة، وسوف تبقى تحمل هذا الاسم إلى الأبد؟
كاتب عراقي
“القدس العربي”