كم كانت بهجة الفيلسوف الألماني هيغل عظيمة وهو يرى القوات الفرنسية تحتلّ مدينته «يينا»، وقال عندها قولته الشهيرة، واصفا نابليون بونابرت: «أرى التاريخ يعتلي صهوة جواده»، وقام عندها بزرع شجرة سماها «الحرية» في باحة منزله، ابتهاجا بهذا الاحتلال. كما أن قصة المعلم الأول مع الإسكندر المقدوني شهيرة، فقد رحّب بقواته المحتلة -ويُقال إنه هو من بعث في طلبها- لأن بلاده ضعفت إلى درجة أن كل مدينة وقرية أرادت أن تستقلّ وتحكم نفسها، وآثر أرسطو عندها عصا المحتلّ على أن يرى العصابات تُشيع في «أثينا» الخراب.
وإذا اقتربنا من مكاننا أكثر ظهر لنا شاهد الثورة العربية التي قام بها الشريف حسين في بداية القرن الماضي، وكيف تعاون مع المحتل الإنكليزي الكافر، وجمع عشائر العرب حوله ضدّ الحاكم العثماني المسلم، وكان السلطان عبد الحميد الثاني في ذلك الزمان، ظلَّ الله في الأرض، وهو خادم الحرمين الشريفين. يقول ميلان كونديرا «إننا نعيش الحاضر مغمَضي العيون ولن يمكننا أن نفهم ما فيه من خيارات وتخبطات إلا عند انقضاء الحاضر: أي حين يصبح ماضيا». وفائدة المقاربة التاريخية هذه أنها تُلقي بعض الضّوء على ما ستجري مناقشته، فالوطنية أو حبّ الوطن صفة مائعة لا يستطيع أحد مسكها باليد، فكم من ادّعاها وأثبتت الأحداث أنه كان بريئا منها، كما أن الماضي حافل بالشهود الذين أثبتوا العكس. أعلن جورج بوش الابن بعد احتلاله العراق أن القرن المقبل أمريكيّ مئة في المئة.
«من الصّعب أن ينسى الإنسان ذلك الفقر المدقع، وذلك الجيش من الأشباح في ملابسهم المهلهلة، يتجوّلون في الهضاب التي احترقت واستحالت رمادا».
هل كان يدور في رأس هذا الرجل المتهوّر أنه كان يؤرخ لبداية عصر جديد، والعهود لا بدّ أن تبدأ بحرب، أو أنها تشهد نهاية حرب؟ شرارة الحرب العالمية الثالثة انطلقت من بغداد، فقد تحرّكت في ذلك التاريخ (2003) جميع بلدان الشرق كي تفشل المشروع الغربي الأمريكي في العراق، واعترض الجميع على أن يلحق هذا البلد بركب الحضارة الحديثة، بما فيها البلدات الحليفة للأمريكيين والغرب، ونجحوا في اعتراضهم، وردّوا الأمريكيين القادمين من وراء بحر الظلمات خائبين، وعاد البلد الذي كاد يكون «يابان» جديدة إلى عصور التخلّف والجهل والظلام، وارتاحت دول الجوار القريبة والبعيدة – البعيدة هي الصين والهند والروس – بعد أن غادر الأمريكيون والغربيون المنطقة. واليوم يشعر الكثير من العراقيين بالمرارة والخيبة لضياع هذه الفرصة، بعد أن كانوا يأملون من هذا التماسّ مع الغرب والأمريكيين خيرا. إن الأغلبية لا تستطيع تقرير مصيرها في شرقنا الأوسط، أو أنهم يفتقدون القدرة على الدّراية بما يضرّهم، وفي الحالتين تبدو الشّعوب مثل دمية تحرّكها خيوط في مسرح الحياة، وغالبا ما تمسك اللّعبة أيدٍ يسكن أصحابها خارج البلاد. إن العالم يعود في هذه الحقبة دورة كبرى، حيث يستقر فيه الشرق في مكانه، والغرب يزحف سريعا إلى أرضه القصيّة. ولكن كيف نجحت حكومات بسيطة تحيط بالعراق وتنتمي إلى العالم الثالث، أو إلى ما بعده في إفشال مشروع وقف خلفه رئيسا أهمّ دولتين في الكون؛ بوش الابن وتوني بلير، ووراءهما عُتاة التفكير الغربي وجبّاروه؟
ولتفسير الأمر أعرض لكم قصة لألبير كامو كتبها في منتصف القرن الماضي، عنوانها «الضيف»، وتدور أحداثها في الجزائر المحتلة، ويقدّم المؤلف فيها صورة ملوّنة زاهية للمستعمر الفرنسي، فعندما تنحبس الأمطار في ذلك الشتاء يقوم ناظر المدرسة بتوزيع القمح الذي تحمله السّفن المقبلة من فرنسا، على عوائل الطلاب الفقيرة: «من الصّعب أن ينسى الإنسان ذلك الفقر المدقع، وذلك الجيش من الأشباح في ملابسهم المهلهلة، يتجوّلون في الهضاب التي احترقت واستحالت رمادا». ماتت قطعان الماشية بالآلاف كما مات عدد من الناس، ويعيش الناظر في مكانه مثل راهب نذر نفسه لخدمة الناس. وفي ذلك اليوم يستقبل دركيّا راكبا فرسه، يسحب وراءه عربيا متّهما بجريمة قتل، وكان يسير على قدميه خافضا رأسه. يطلب الدركيّ من الناظر تسليم القاتل إلى مركز الشرطة القريب. يرفض الناظر هذا الطلب الغريب، فهو لا يعمل مع رجال البوليس، لكن الدركيّ يحذّره من عدم تنفيذ الأوامر. ثم يغادر الدّركيّ، ويحلّ الناظر وثاق السجين، ويعامله مثل ضيفه، يقدّم له الطّعام والشاي، وفي الأخير يرقدان مستسلميْن للنوم. في الصباح هيّأ الناظر فطورا للسجين، وسلّمه 1000 فرنك مع ربطة فيها تمر وخبز وسكّر تكفيه يومين. وقال له، وهو يشير باتجاه الشرق: «هذه هي الطريق إلى تنغويت، وستجد فيها رجال الشرطة بانتظارك». ثم أشار إلى الجهة التي تؤدي إلى البادية، حيث يلقى عند القبائل التي تجوبها للرّعي العيشَ الآمن، وتقرّر القصة في الختام أن السّجين اختار طريقه إلى مركز الشرطة.
يقول الرّئيس الصّيني شي جين بينغ، وهو يناقش الأزمة الروسيّة الأوكرانيّة: «على مختلف البلدان والحضارات أن تتطوّر معاً في ظلّ احترام متبادل، وأن تتعاون من أجل الكسب المشترك، مع السعي إلى إبراز المشترك وتعتيم المختلف».
هل كان الأديب الفرنسي مبالغا في قراءته لوضعنا نحن العرب، وكيف نشعر وكيف نعيش، وكيف هو مآلنا في السّباق بين الأمم؟ الجواب المنصف يعطي لألبير كامو بعض الحقّ، فهو يكتب عن تجربة حيّة له في الجزائر، ويبدو أن القصّة مبنيّة على حادثة حقيقيّة بطلها رجل شرقيّ تربّى على الطّاعة العمياء للحاكم، ولا يوجد في ذهنه ولو لمعة من التّفكير باستبدال الولاء بعكسه، ويتّخذ هذا – أي الولاء- في بلداننا صورا عديدة، دينية أو اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية، ولا فرق جوهري بين صورة وأخرى. إن صدى قصة «الضيف» يبلغ أجواء الشّرق كله، ويصبغها بلون واحد. هل راهنت البلدان المحيطة بالعراق على هذا الصدى، وتغلّبت بواسطته على المشروع الأمريكي البريطاني في المنطقة؟ السماء هنا واحدة، وإن تباينت التّضاريس على الأرض، كما أن منطق أهل الشّرق واحد، ورؤساؤه يتحلّون بمحيّا واحد. يقول الرّئيس الصّيني شي جين بينغ، وهو يناقش الأزمة الروسيّة الأوكرانيّة: «على مختلف البلدان والحضارات أن تتطوّر معاً في ظلّ احترام متبادل، وأن تتعاون من أجل الكسب المشترك، مع السعي إلى إبراز المشترك وتعتيم المختلف». القول بليغ، وفيه إعادة لما فكّر به سقراط منذ قديم الزمان، وهو أن المجتمع يحدّد نفسه بأمرين، ما يبيحه وما يحظره. لكن «المختلف» بين الشرق والغرب لا يمكن تعتيمه، فهو يبلغ من القوّة والأثر أنه تسبّب في»هروب» الأمريكيين من العراق وأفغانستان، فعندما صاروا قريبين منّا، أو قل حين أصبحوا من أهل الدار، ثم قاموا بكشف الغطاء، لقوا عالما معتما لا يمتّ للقيم التي يؤمنون وينعمون بأفضالها بأيّ صلة، وساعدت دول الشرق جميعا إنساننا على التمسّك بهذه العتمة، واتّخاذها سلاحا في وجه العدوّ. وفي المقابل نجد وزير الخارجية الأمريكي يصف الخطر المقبل من الصين بأن «لهذه الدولة الإرادة والقدرة على تغيير النظام الدولي، لكنها غير جديرة بذلك، لأنها لا تحمل القيم التي ازدهر بها العالم في العقود السبعة الماضية». لا يخشى الوزير بلينكن من نهضة الصين، ولكن من العُتمة التي تستقرّ في الباطن، وربما تعدّت هذه مكانها وبلغت دول الغرب، وهكذا تمّ التّخطيط للحرب في أوكرانيا في مختبرات الغرب منذ سنين، ولسان حال القائمين عليها يقول إننا نفعل في ديارنا مثلما قاتلتمونا في بغداد وكابول. ليذهب كلّ إلى مكانه، لا تشرّفونا بعتمتكم، طالما كنتم غير راغبين في ضوء الحضارة الغربية الحديثة.
الغرب غرب والشرق شرق، ولا يمكن رؤية التلّ واديا مطلقا، فإن شطّ بأحد منّا الخيال وكان التلّ في عينيه واديا، فسيكون ذلك هراءً محضا. لكن هذا ليس هو المنطق، بل ما يدور في عقول ساسة الشرق، ويهيمنون به على شعوبه، ويريدون أن يبقى الشرقيّ بعيدا عن العالم الحرّ، لكيلا يرفع رأسه وينظر إلى الدنيا، وقد أثبتت التجارب في اليابان وكوريا الجنوبية أن الناس لا يسيرون على خطى أسلافهم، وإنما هم على دين ملوكهم. الغرب أرض وسماء وماء، وكذلك الشرق، وفات ذلك الزمان الذي كان كيبلنغ يقول فيه: «إذا ما سمعت بنداء الشرق، فإنك لن تسمع شيئا آخر غيره على الإطلاق».
كاتب مغربي
“القدس العربي”