لأنها رفضته، رفضت محاولاته المتكررة للعودة إليه بعد فشل علاقةٍ أو تقاربٍ كان بينهما، أقدم الشاب محمد عادل على قتل زميلته نيرة في وضح النهار، أمام أسوار الجامعة؛ لا شك بأنه مضطرب.. لم يتأخر شابٌ آخر عن تلك الجريمة كثيراً، ربما زهاء يومٍ، حتى أعرب عن نيته الانتحار على وسائل التواصل الاجتماعي، سائلاً الناس أن يتذكروه، ولم يلبث بالفعل أن قفز بسيارته من أعلى جسرٍ فهبط صريعاً..
لا شك بأنه أيضاً مضطرب.. ولما كانت مدينة المنصورة شمال القاهرة قد حازت نصيب الأسد من هذه الحوادث، فقد شاء حظها التعس أن يضيف آخرٌ إلى تلك الباقة البائسة والقبيحة، إذ قام شابٌ يعمل إماماً لمسجد وخطيباً متطوعاً بهتك عرض طفلةٍ تبلغ من العمر اثني عشر عاماً، كانت تأتيه ليحفظها القرآن.. فلا شك بأنه منحرفٌ وشديد الانحطاط..
وقد أفاد طاقم الأمن المسؤول عن برج القاهرة، بأنهم وإن أفلت منهم شابٌ ألقى نفسه من أعلى البرج ليسقط ميتاً في الفترة نفسها التي شهدت تلك الحوادث، فقد قاموا بمنع قرابة عشرين آخرين في العام الماضي أقدموا على المحاولة ذاتها.. لا شك بأنهم يعانون من ضوائق مادية وحالاتٍ نفسية.. وهناك الذي قتل أخته طعناً بسكين وحوادث قتل وانتحار متفرقة، ولكنها متعددة ومتقاربة زمنياً تفوق الحصر.
بالتأكيد أنهم جميعاً، كلٌ على حدة، إما يعانون من أزماتٍ أو أمراضٍ نفسية أو أنهم منحرفون يتعاطون صنفاً أو أصنافاً من المخدرات، لكن حين تتواتر الحوادث بهذه الصورة وبهذا النمط، حين يصبح الانتحار حدثاً يومياً متكرراً، أليس لنا أن نغتم ونهتم؟ أليس لنا أن نتساءل فزعين: ما الذي يحدث بالضبط؟ والأهم من ذلك، أليس لنا أن نصل إلى استنتاجٍ بأن ذلك المجتمع مأزومٌ بشدة، حيث يندفع كثيرون فيه للقتل، إما تصفيةً لمشاكلهم، أو لنيل ما يرغبون فيه، من دون أن يطالوه، وإما يلجأون إلى الانتحار، إلى تصفية ذواتهم، للهروب من واقعهم؟ وحين نصل إلى ذلك الاستنتاج هل لنا أن نفلت من أولئك المستعدين دائماً وأبداً إلى اتهامنا بالمبالغة والتهويل، سائقين أمثلةً من أرجاء الكوكب لحالاتٍ مشابهة في قرون خلت، في ما بات حوار طرشانٍ عقيمٍ ولا ينتهي؟
لا توقف للعنف ولا للانتحار، ولا استرداداً للإنسانية المهدرة والمسلوبة ما لم تتحسن الظروف الاقتصادية ويُفسح المجال العام
الأعجب والأغرب، أن كثيراً من الناس، الجمهور الأوسع، لم يتأخر كثيراً بعد مقتل الفتاة حتى اتهم انحلال الأخلاق، وخروج النساء كاشفاتٍ رؤوسهن وخروجهن عموماً، ولو صبرنا قليلاً لطال الأمر وجودهن في المطلق، ليلقوا عليه باللائمة، وتطوع البعض فلجأ إلى «الفوتوشوب»، تلك الآلة الأجهز لتلبية رغبة منطقتنا في العالم، حكوماتٍ وشعوباً لتدليس الواقع وتزييف الوعي، فـ»حجَّبَ‘ القتيلة، ألا يدل كل ذلك على أن المشكلة أعرض وأعمق؟ الغريب والمدهش تماماً، أن أحداً لا يشير إلى مجرد احتمال أن يكون النظام وأجهزة الدولة، بعنفها المفرط وقمعها اللامتناهي، مسؤولةٌ بأي حالٍ من الأحوال. في يقيني أننا نتحدث عن كل شيءٍ يخص هذه الجرائم، نراقب ونسجل ونعرب عن رعبنا وأسفنا ومخاوفنا من المستقبل، نقرر أن طابع الجريمة قد اختلف عما قبل، إلا أننا نقف دون أن نشير إلى الفيل الضخم في الغرفة: النظام بعنفه.
ما من دولةٍ أو مجتمعٍ إلا ويعرف جرائم القتل والانتحار، إلا أن تزايد معدلاتها ووتيرتها، لا بد من أن يوقفا المراقبين والمهتمين ويلفتا الانتباه، وفي حالة مصر فإن لدينا سببٌ واضح. نحن نعيش ليل هزيمة ثورةٍ أو حراكٍ شعبي من قبل ثورةٍ مضادة دشنت عهدها بأكبر مذبحةٍ عرفتها مصر في العصر الحديث، تلك التي أصبحت عنواناً لها والعمل المؤسس. من ناحيةٍ أخرى إن انحيازات نظام السيسي وسياساته الاقتصادية واضحة، فهو لا يخفي نيته التخلص من أي شكلٍ من أشكال الدعم، بالإضافة إلى حاجته المستمرة والمتزايدة إلى العملة الصعبة، لتلبية التزاماته المالية لخدمة ديونه التي أنفقها على الأسلحة، وعلى مشاريع ضئيلة المردود والجدوى، ما يزيد من إفقار شرائح عريضة في المجتمع، وتفاقم أزمتهم الاقتصادية الوجودية وسقوط الكثيرين منهم في هوة الفقر والاستدانة، ومن ثم عدم المقدرة على الوفاء.
لذا، فبين فكي الإفقار والإملاق من ناحية، وانسداد أفق أي تغييرٍ حقيقي أو انفراجةٍ واستحالة المطالبة بها نظراً لبطش النظام الذي لا يعرف رحمةً ولا هوادة، يتحلل مفهوم المجتمع.. بل يتحلل المجتمع ذاته إلى جزرٍ منعزلةٍ وحيدة، وحداتٍ صغيرة من أُسرٍ أو أفراد، الكل يحارب الكل ويعيش على حساب وبقايا وأشلاء الكل، حيث الهاجس الوحيد هو البقاء.. البقاء بمعناه الأكثر بدائيةً.. يتوحش المجتمع..
ومن ناحيةٍ أخرى فقد ضرب النظام المثل الأكبر والأوقع بمجزرته الدامية وما أعقبها من تصفياتٍ وإعداماتٍ بالجملة. لقد دشن النظام من الناحية الفعلية حقبة التفسخ المجتمعي والتوحش، وإزاء قوته المفرطة التي لا قبل للناس بها، وفي ظل غياب التنظيم الحقيقي، الذي قد يوحد صفوف الساخطين ويناوئ السلطة، أضحى نهشهم لذواتهم وللآخرين أرخص السبل وأكثرها إتاحة، هذا بالطبع بعد استنفاد مخزون ورصيد التدين والأمل في حياةٍ أفضل، بل هو الحياة الحقيقية، ولا ضير في أن تستمر الماورائيات والأحكام الأخلاقية تصبغ تقييمهم اليومي للحوادث التي تحدث حولهم طالما لم يشر أحدهم إلى النظام. بالطبع، وكما هو واضح، لا يكلف ذلك التوحش النظام كثيراً، ليس أكثر من الأعمال الشرطية المعتادة، وفي حركةٍ استباقية، مد يده لبعض الشخصيات المعتدلة لعله يحتاجها ليشكل واجهةً سياسية يتعامل بها مع أي اضطراباتٍ قد تندلع نتيجة انسداد الأفق وصعوبة الحياة المفرطة حد الاستحالة.
إن النظام يكتفي بالمراقبة وإدارة هذا التوحش، كأنه لا يعنيه وغير مسؤولٍ عنه، يتدخل فقط حين يهدد ذلك التوحش والسعار مصالحه ونفوذه، والحقيقة أن ذلك لا يتنافى مع رؤى وعقليات رجاله، أو العقلية المحافظة للقطاع الأعم من الطبقة الوسطى المصرية، التي ترتعب وتأسف من الحوادث، ثم تلقي باللائمة على الأشخاص والأسر لقلة الدين وغياب التربية.
للأسف لا أرى توقفاً للعنف ولا للانتحار، لا أرى استرداداً للإنسانية المهدرة والمسلوبة ما لم تتحسن الظروف الاقتصادية ويُفسح المجال العام، أي دون رحيل النظام أو تنازلاته، وهذه الأخيرة لا بشائر لها أيضاً، لا يملك أحدٌ أن يجزم بتوقيت التغيير إلا أنني لا أرى إلا تصاعداً لإهدار الآدمية والمادة البشرية في صراعاتٍ ممزقةٍ متوحشة حتى تحين لحظة الانفجار.
كاتب مصري
“القدس العربي”