يخبرنا الباحث أيمن جواد التميمي، أنه عثر على أحد أقدم المخطوطات الغربية التي توثق تاريخ العرب عموما والأندلس خصوصا، القصة حصلت بالصدفة، فبينما كان يبحث عن ترجمات لاتينية للقرآن، عثر التميمي على مخطوط يحوي أقدم نص لاتيني من القرن الثالث عشر، يسمى «هيستوريا أرابوم»، تاريخ العرب، كان محاولة لدراسة موضوعية للإسلام بأمر من رئيس أساقفة طليطلة من عام 1209 إلى وفاته عام 1247.
توليدو رودريغو خيمينيز دي رادا، الذي عاش فترة انتقالية في تاريخ إسبانيا شهدت تراجع الهيمنة الإسلامية في شبه الجزيرة الإيبيرية، بعد تقليص حكم المسلمين لينحصر في إمارة غرناطة، التي أصبحت بالفعل مجرد رافد لمملكة قشتالة المسيحية، كما يوضح رودريغو، يذكر أيضا في مقدمته، أنه متأسف لأن أجزاء من منطقته كانت «موبوءة بأعداء الصليب» وأنهم ما زالوا يسيطرون على بعض المناطق.
الكتاب ليس عملا مستقلا، ولكنه جزء من سلسلة «تاريخ إسبانيا» المكونة من خمسة كتب، والتي طلبها الملك فرديناند الثالث، ويرجح أن رودريغو أنجزها في ثلاثينيات القرن الثاني عشر، وهي سلسلة تبدأ بـ»التاريخ القوطي» الذي يروي تاريخ إسبانيا وشعبها الأول القوط الغربيين، الشعب الجرماني الذي أسس مملكته في إسبانيا بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية الغربية، وحكم شبه جزيرة موحدة قبل قدوم المسلمين الذي بدأ عام 711ثم الممالك المسيحية التي نشأت بعده، والتي كانت تعتبر «خلفاء» للقوط الغربيين. بحسب الترجمة الأولية للكتاب الصادر باللغة الإنكليزية يشتمل «هيستوريا أرابوم» على مقدمة و49 فصلا، يقدم سردا للتاريخ العربي يمكن تقسيمه بحسب التميمي إلى ثلاثة أجزاء: سيرة النبي محمد، ولا يخفي الأسقف هنا عداءه لنبي الإسلام والعرب، بحيث أراد هذا الجزء أن يكون «مناهضا لسيرة القداسة»، إذ يتحدث عن «الكشف عن وحشية ودهاء العرب وعن «الوحي الكاذب» لمحمد، حسب تعبيره، ويرى رودريغو أن محمد ملك العرب، كما وصفه، كان مدفوعا أساسا برغبة السلطة. ويشرح من وجهة نظره المسيرة التي انتهت بتتويج النبي محمد ليصبح ملكا للعرب وتأسيس مملكته في دمشق وحكمه لمدة 10 سنوات بعد التمرد الذي قاده ضد البيزنطيين. يحتوي هذا الجزء من السيرة الذاتية على مصدر هو: «سجل المستعربين»، وهو نص مجهول من منتصف القرن الثامن إيبيري، وهو من بين الأعمال اللاتينية الأولى التي ذكرت محمد بالاسم وتناقش التاريخ العربي والتاريخ البيزنطي والقوط الغربي. ثم سرد عام للتاريخ العربي يوضح بالتفصيل الخلفاء الراشدين للرسول محمد (ص) وعصر الخلافة الأموية، بما في ذلك غزو إسبانيا؛ فيذكر رودريغو أن الأمير الأموي هشام الأول «حكم الأرض كلها بسلام بالعدل والمودة»، وأن خليفته الحكم أعان الفقراء، وعمل على ضبط المجرمين وأعطى الصدقات بسخاء. وأخيرا، جزء يركز حصريا على التاريخ العربي الإسلامي في إسبانيا من صعود الإمارة الأموية في قرطبة المستقلة عن العباسيين إلى تحولها إلى خلافة منافسة لبغداد، ثم انهيارها في عام 1031، ويرسم تاريخ سلالة المرابطين الأمازيغية التي أخضعت دول الطوائف ليأتي الموحدون في آخر المطاف، ويروي أنه بعد انهيار الخلافة الأموية في قرطبة طلب شخص يُدعى أمية من شعب قرطبة أن يجعله حاكما، فيقولون له إن المدينة في حالة اضطراب وإنهم يخشون مقتله، فيجيبهم: «اطيعوني اليوم واقتلوني غدا». وهي قصة تهدف إلى توضيح كيف أدى حب السلطة إلى زعزعة استقرار الدولة وانهيارها.
مفهوم التسامح في حد ذاته عرضة للتضليل في المناقشات حول إسبانيا في العصور الوسطى، خاصة الأجزاء الواقعة تحت الحكم الإسلامي
لكن مشروع رودريغو في سرد تاريخ إسبانيا، وبالذات – التاريخ القوطي ـ والذي يتوج باستعادة قرطبة، وتطهير المدينة حسب تعبيره، وهو الذي شارك بالحروب الصليبية بنفسه، يحتوي اشكالية وجدها التميمي حول معنى وحقيقة مبدأ التسامح،
وهنا يناقش التميمي مفهوم التسامح الشائع خلال حكم المسلمين في الاندلس، فيقول « في رأي بعض العلماء اراد رودريغو طرد المسلمين من إسبانيا لأنه اعتبرهم غزاة أجانب: في الواقع، كان موقفه مقدمة لعمليات الطرد والتحويل القسري، التي استهدفت اليهود والمسلمين في حقبة ما بعد 1492 في إسبانيا، بعد انتهاء السيادة الإسلامية. ويوضح التميمي أن هناك جدلا بأن رودريغو كان يؤمن بـ»التسامح» بمعنى محدود ونسبي حتى لو أراد أن يرى نهاية للسيادة الإسلامية في إسبانيا، فعندما يقدم رودريغو كلمات مدح للحكام العرب والمسلمين، فإنه يفعل ذلك لأنه يريد أن يشير إلى أمثلة جيدة للملوك ليتبعوها، ويؤكد نظرته للتاريخ على أنها تخدم غرضا تعليميا، كما أوضح في مقدمة كتابه، علاوة على ذلك، يُقال إنه يرى العرب في إسبانيا على أنهم جزء من إسبانيا على الأقل، كما هو الحال عندما يتحدث عن «العرب الإسبان» أو في نهاية الكتاب عن «العرب المخربين»، معترفا فعليا بتميزهم عن بربر شمال افريقيا وعرب الشرق الأوسط، ومع ذلك، فإن مفهوم التسامح في حد ذاته عرضة للتضليل في المناقشات حول إسبانيا في العصور الوسطى، خاصة الأجزاء الواقعة تحت الحكم الإسلامي. غالبا ما يسمع المرء شكاوى من «أسطورة الجنة الأندلسية»، استنادا إلى مثال يُفترض أنه متعدد الثقافات ومتناغم، حيث التقى المسلمون واليهود والمسيحيون. في حين أن هذا المفهوم قد يكون موجودا إلى حد ما على المستوى الشعبي، فإن قلة من العلماء المعاصرين في إسبانيا في العصور الوسطى سيؤيدونه.
ويرى التميمي أن «التسامح يفهم هنا على أنه السماح بنوع من التعايش، حتى عندما تؤكد مجموعة واحدة هيمنتها. وفي حالة إسبانيا التي يسيطر عليها المسلمون، كان المسيحيون واليهود، بشكل عام، مواطنين من الدرجة الثانية «أهل الذمة، ولكن تم التسامح معهم بمعنى السماح لهم بممارسة شعائرهم الدينية والاحتفاظ بممتلكاتهم». في الواقع، والكلام للتميمي «يمكن للمرء أن يطبق المنطق نفسه على الأجزاء التي يسيطر عليها المسيحيون في إسبانيا، ويجادل بأن ما تصوره رودريغو كان وضع أهل الذمة للمسلمين واليهود، تابع للسلطات المسيحية الحاكمة، ولكن سمح لهم بممارسة شعائرهم الدينية والاحتفاظ بممتلكاتهم».
وبحسب الكتاب فإن مقدمة «هيستوريا العرب» تظهر التسامح المحدود الذي يتصوره رودريغو، لأنه بعد ذكر سبل الانتقام للمسيحيين، يعلن: «مثلما اضطهدوا منذ البداية السكان المسيحيين تحت وطأة الجزية، كذلك هم أيضا يعيشون الآن في عبودية معتادة تحت الجزية بعد». ليعلق التميمي قائلا: «بطبيعة الحال، يجب ألا تحجب هذه التفاهمات النسبية والدقيقة للتسامح والتعايش القمع الحقيقي الذي يمكن أن يأتي بالفعل مع وضع مواطن من الدرجة الثانية، سواء في إسبانيا التي يسيطر عليها المسلمون أو إسبانيا التي يسيطر عليها المسيحيون، لذلك من الصحيح التحذير من التمسك بهذه التجارب كأمثلة جيدة لهذا اليوم». وهكذا يختتم الباحث أيمن جواد التميمي بحثه في ربط مفهوم التسامح المزيف إن صح القول، بين الأندلس بالأمس والشرق الأوسط اليوم، فيقول «إن التعايش والقمع يمكن أن يوجدا معا في الوقت نفسه»، حتى في الوضع الحالي «يرى المرء محاولات، كما هو الحال في الضفة الغربية التي تحتلها إسرائيل أو عفرين التي تسيطر عليها تركيا في سوريا، دعم التعايش كغطاء لواقع الاحتلال والأنظمة التمييزية» حسب ما جاء في كتاب التميمي.
كاتب فلسطيني
“القدس العربي”