أسطورة ديدلوس وابنه إيكاروس
تقول الأسطورة اليونانية القديمة إن النحات البارع والمعمار العظيم (ديدلوس) هرب من أثينا متخفيا تحت جنح الظلام خوفا من عقوبة الموت، بعد ان قتل ابن أخيه (بيردكس) بدافع الغيرة والحسد، لأنه تفوق عليه في فن النحت والمعمار.
وصل ديدلوس، ومعه ابنه (إيكاروس) إلى جزيرة كريت وأقام فيها، واستطاع أن يستميل قلوب عائلة ملكها. لكن بعد مدة انقلب عليه هذا الملك ومنعه من مغادرة الجزيرة، فوجد نفسه سجينا مع ابنه في تلك الجزيرة النائية، وانشغل فكره بطريقة ينقذ بها نفسه وابنه، وبالتأكيد لا يتحقق ذلك إلا بالهرب من ذلك المكان. وأوحت له الطيور التي لم يكن يرى سواها في المنطقة بفكرة الطيران بواسطة أجنحة يصنعها بنفسه وهو الصانع الماهر.
أنجز ديدلوس عمله بكل إتقان، وركّب الأجنحة على ظهر ابنه ثم على ظهره، وقبل أن يشرعا بالطيران نصح ابنه أن لا يقترب من الأرض كثيرا ولا يحلق في السماء عاليا؛ ثم حركا أجنحتهما وأخذا يرتفعان ببطء في الهواء مثل طيرين ضخمين.
اتبع إيكاروس في أول الأمر أباه، وطار قريبا منه في الاتجاه نفسه، لكنه ما لبث أن انتهز انشغاله عنه، وأخذ يطير إلى أعلى فأعلى، فأذابت حرارة الشمس الشمع وتطاير الريش، واذا به يهوي في اتجاه الأرض وهو يطلق صرخة طويلة مرعبة.
رفع الأب المفجوع جسد ابنه الهامد، وبعين باكية وقلب يتفطر ألما ولوعة، حفر له قبرا ودفنه فيه. وما كاد ينتهي من ذلك حتى سمع صرخة غريبة آتية من السماء، وحين رفع رأسه شاهد طائر الحجل يحوم فوقه، فعلم أن هذه رسالة من الآلهة تخبره بأن موت ابنه ايكاروس هو بسبب غضبها عليه وعقابها له لقتله ابن أخيه بيردكس.
حكاية عباس بن فرناس
أما حكاية عباس بن فرناس، وهي حكاية شعبية سمعناها في بيوتنا ومقاهينا، فتزعم أنه تمكن من الهرب مع ابنه من سجنهما بعد أن صنع جناحين من الريش المثبت بالشمع (كان الاعتقاد السائد في ذلك الوقت أن الريش يخفف من وزن الجسم) ثم طارا بهما وابتعدا عن السجن. كان الأب يطير قريبا من الأرض، أما الابن فبدأ يحلق عاليا، وناداه أبوه محذرا إياه من الاقتراب من الشمس، فلم يستمع لنصيحته واقترب من الشمس أكثر فأكثر، فأذابت حرارتها الشمع وبدأ الريش يتساقط ويتناثر في الهواء، وحينئذ عجز الابن عن الطيران وهوى من علو شاهق وارتطم بالأرض ومات. أما الأب فلم يستطع ان يفعل شيئا لابنه، وأكمل رحلته لوحده حتى وصل إلى أهله وهبط بينهم بسلام.
هناك من روى حكاية عباس بن فرناس بصورة أكثر اعتدالا، فقال إنه طار لمسافة قليلة سقط بعدها على الأرض وأصيب بكسور. وعلى أي حال فإن الروايتين (الأسطورة الإغريقية والحكاية العربية) تفندهما أمور كثيرة وواضحة.
لكن من هو عباس بن فرناس؟ إنه الفيلسوف والشاعر والمخترع المغربي الأصل الملقب بحكيم الأندلس، ولد في إقليم رنده في إسبانيا سنة (194هـ ـ 810م) في زمن الدولة الأموية في الأندلس، وعاصر أمراءها: الحكم بن هشام، وعبد الرحمن بن الحكم، ثم محمد بن عبد الرحمن الذي مات ابن فرناس في عهده سنة (273هـ ـ887 م) في قرطبة. ابتكر عباس بن فرناس صناعة الزجاج من الحجارة في الأندلس، وصنع من ذلك الزجاج المكبرات التي أعانت ضعيفي البصر على الرؤيا، وصنع (قلم حبر) كما صنع (ميقاتة) وهي ساعة تعمل بالماء، وهو أول من فكّ كتاب العروض للخليل بن أحمد الفراهيدي، وأول من فكّ الموسيقى. وبسبب ذيوع صيته بأكثر من علم وبراعته فيها كلها، لقب بحكيم الأندلس. لكن لم يتركه المتطرفون وشأنه، فاتهموه بالكفر والزندقة، بحجة أنهم رأوا قناةً تخرج من داره يجري فيها ماء أحمر. وعلى الرغم من أنه كان يحظى باحترام وتقدير الأمراء والحكام، خصوصا الأمير عبد الرحمن بن الحكم، إلا أنه كاد يكون ضحية لأولئك المتعصبين ممن كانوا دائما عقبات كأداء في طريق العلم والعلماء، فكان ابن فرناس هدفا لحملاتهم المحمومة وسعيهم الدائم للقضاء عليه. وحين يئسوا من ذلك رفعوا ضده دعوى إلى القضاء يتهمونه فيها بالزندقة، وبأنه ساحر يشتغل بالنار أثناء الليل، وأن مياه حمراء تخرج من داره، وأنه يكلم نفسه في النهار في روحاته وغدواته. فعقدت محاكمته في المسجد الجامع أمام العامة؛ ولحسن حظه فإن قضيته وضعت أمام قاض عاقل متنور، لم يجد ما يدينه به، فبرأه من تلك التهم الخطيرة.
أعلن عباس بن فرناس أمام الملأ أن باستطاعة الإنسان أن يطير مثل الطيور، وقال إنه يريد أن يثبت لهم ذلك ويحقق في الوقت ذاته حلمه في الطيران، وسيقوم بالمحاولة من أمام قصر الرصافة في قرطبة. وحين تجمع الناس هناك في الوقت الذي حدده شاهدوه واقفا على ربوة عالية، وقد كسا جسمه كله بالريش وربط على ظهره بواسطة شرائط من الحرير جناحين مصنوعين من الخشب والجلد والريش. وعن ذلك الحدث قال بعض المؤرخين، إن عباس بن فرناس بعد أن قفز من مكانه استطاع أن يحلّق في الهواء لمدة وجيزة من الزمن، وأنه (طار) لكن لمسافة قريبة سقط بعدها على الأرض وأصيب بكدمات ورضوض. وقال مؤرخ آخر إنه نجح في الطيران لمسافات لا بأس بها، لكنه أخفق في الهبوط، والسبب برأيه هو عدم اتخاذه ذَنَبا يعينه على الهبوط!
وماذا يقول العلم؟
قسّم العلماء مراحل الطيران على الشكل الآتي:
1ـ المرحلة القديمة، حين فكر الإنسان أن يتنقل بواسطة النسور، إذ يدخل نفسه في سلة تربط بقوادم عدد من النسور فتطير بها.
2 ـ مرحلة الأجنحة المتحركة مثل الطيور، وهذه تعود إلى العصور الوسطى، وهي مجرد محاولات كان رائدها عباس بن فرناس.
3 ـ مرحلة الطيران الشراعي في أواخر القرن التاسع عشر.
4 ـ مرحلة الطيران بالمناطيد في أوائل القرن العشرين.
5 ـ مرحلة المحركات التي تبعها تقدم هائل في هذا المجال.
وقد أثبت العالم الرياضي يونان الفونسو (1608 – 1679) علميا، أن الإنسان لا يستطيع على الإطلاق الطيران بطريقة الأجنحة المتحركة، لأنه سيحتاج في هذه الحالة إلى أجنحة لا يقل طولها عن ستة أمتار، وإن الأجنحة التي بهذا الطول ستكون ثقيلة جدا، إذ يضاف إليها وزن الجسم ومقاومة الهواء وجاذبية الأرض، فيكون من المتعذر على العضلات البشرية تحريكها باستمرار وبسرعة كافية لأجل التحليق وإدامة البقاء في حالة الطيران. وكما هو معلوم فإن عضلات الطيور المحركة للأجنحة تزن نحو ثلث وزن الطائر بأكمله، وهذا لا يتوفر لجسم الانسان. كما أن جناحي الطائر تقعان في مكان مثالي من جسمه يسمح باتزانه واستقراره أثناء التحليق والطيران، ولا يشبهها في ذلك موقع يدي الإنسان من جسمه.
إن عباس بن فرناس هو رائد المرحلة الثانية في التقسيم السابق (مرحلة الأجنحة المتحركة) وهذا وحده يعد فخرا كبيرا وكافيا له، فضلا عن كونه فيلسوفا وشاعرا ومخترعا.. لكن الناس بحبهم للخيال، وبمبالغاتهم، حاولوا أن يطيّروه، وبدلا من ذلك طارت إبداعاته الحقيقية الكثيرة وتوارت عن الأنظار.
كاتب عراقي
“القدس العربي”