نشرت صحيفة “الغارديان” نتائج تحقيق قادته مجموعة لايت هاوس ريبورتس والتحقيق الاستقصائي السورية من أجل المحاسبة الصحافية (سراج) ومشروع التحقيق في الجريمة المنظمة والفساد وعدد من الصحافيين في سبع دول مثل أوكرانيا وصربيا وبلغاريا ورومانيا واستخدموا المصادر المفتوحة والوثائق المالية وبيانات التجارة في عدد من الدول كشفت عن كيفية نقل الفوسفات من المناجم السورية في الصحراء إلى أوروبا، ومن نظام من المفترض أنه تحت العقوبات.
وبدأت الصحيفة بالحديث عن سفينة “سي نافيغيتر” التي كانت تحمل العلم الهندوراسي اختفت عن أنظمة التتبع الدولي قريبا من ساحل قبرص. وعندما ظهرت بعد اسبوع كانت متجهة شمالا باتجاه أوروبا، لكن السفينة لم تختف فقد انسلت نحو ميناء سوري تسيطر عليه روسيا لنقل الفوسفات المادة الضرورية لإنتاج الأسمدة. ويكشف التحقيق أن تصدير مادة الفوسفات السورية الرخيصة السعر، ازدهر في السنوات الماضية. فليس لدى أوروبا مخزون كبير من مادة الفوسفات، ويكافح المزارعون للحصول على سماد الفوسفات، حتى قبل الحرب الأوكرانية والتي أدت لارتفاع أسعاره لمستويات أعلى.
ليس لدى أوروبا مخزون كبير من مادة الفوسفات، ويكافح المزارعون للحصول على سماد الفوسفات، حتى قبل الحرب الأوكرانية والتي أدت لارتفاع أسعاره لمستويات أعلى.
وتعلق الصحيفة أن هذه التجارة السرية تأتي بثمن باهظ، فتصدير الفوسفات يمنح شريان حياة للحكومة القمعية لبشار الأسد، ويحول المال الأوروبي إلى أهم شريك لسوريا في صناعة الفوسفات، الملياردير الروسي، غينادي تيموشينكو، الرجل المقرب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ومع أن العقوبات الأوروبية على سوريا لا تحظر بشكل واضح استيراد الفوسفات، إلا أنها تحظر توقيع عقود مع وزارة النفط والثروة المعدنية المشرفة على صناعة الفوسفات. وتواجه الشركات الأوروبية مشكلة خرقها العقوبات الأمريكية التي فرضت على سوريا. وكان تيموشينكو، أول رجال النخبة الروسية الذين أضيفوا إلى قائمة العقوبات البريطانية والأوروبية بعد غزو روسيا لأوكرانيا في 24 شباط/فبراير. ولتجنب هذه المعوقات، تدفع الشركات الأوروبية إلى شبكة معقدة من الشركات الوهمية والوسطاء من أجل شراء الفوسفات السوري والذي يتم نقله خلسة إلى سفن مثل “سي نافيغيتر”.
وفي تحليل لأشكال الرحلات واستخدام بيانات تتبع السفن، كشف عن سفن تحمل الفوسفات السوري حيث تختفي من رادارات المنظمة البحرية الدولية وهي في طريقها إلى سوريا، ثم تعود إلى الظهور وهي في طريقها نحو أوروبا بعد اسبوع أو اسبوعين. بالإضافة إلى هذا، قام العاملون مع تيمنشكو بخلق واجهات تجارية لنقل الفوسفات إلى أوروبا. وقال إبراهيم العلبي، الخبير القانوني السوري الذي يرصد عملية التهرب من العقوبات “تظهر تجارة الفوسفات أن العقوبات الأوروبية لا تفي بالغرب، فالتهرب من العقوبات يعمل وليس ذلك صعبا”. وأضاف “تعلم الروس هذا في سوريا ويمكنهم استخدام التجربة لتجنب العقوبات بسبب الحرب في أوكرانيا”. وتكشف سجلات التجارة أن اسبانيا وبولندا وإيطاليا وبلغاريا استوردت الفوسفات السوري قبل فترة. وتعتبر أوكرانيا وصربيا اللتان تطبقان العقوبات الأوروبية كجزء من اتفاقيات مع الكتلة الأوروبية. وعندما سئلت عن الاستيراد، قالت الشركات والمؤسسات الحكومية إنها لا تخرق العقوبات لأن الفوسفات السوري ليس محظورا ولا تتعامل مباشرة مع من فرضت عليهم عقوبات. وعلقت إيرين كينيون، الضابطة الاستخباراتية في وزارة الخزانة “قد تكون مصيبا من الناحية القانونية، ولكنك تعطي مال الدم لنظام فرضت عليه عقوبات ومنتهك لحقوق الإنسان وإلى اوليغارش روسي فرضت عليه عقوبات”.
وأشارت الصحيفة إلى مناجم الفوسفات القريبة من مدينة تدمر التي خرب معالمها التاريخية تنظيم الدولة، حيث ينقل منها والبلدات القريبة العمال لحفر صخور الفوسفات من المناجم المغبرة. وهناك قلة من السوريين يعيشون في القرى القريبة نظرا لنشاط خلايا تنظيم الدولة. وتقوم شركات التعهدات الأمنية السورية والروسية بحراسة المناجم وترافق الشاحنات المحملة بالفوسفات إلى الساحل.
ويعتبر الفوسفات مادة مهمة للمحاصيل الزراعية وانتاج طعام الحيوانات. وتعتمد أوروبا على تجارة الفوسفات العالمية التي تقدر قيمتها بـ 55 مليار دولار. وكانت سوريا من أكبر مصدري الفوسفات في العالم، وذلك قبل الحرب الأهلية عام 2011، وتدهور وضع الصناعة عندما سيطر تنظيم الدولة على المناجم عام 2015. وفي ذلك العام أرسلت روسيا قواتها إلى سوريا، وساعدت نظام الأسد استعادة معظم البلاد. وردت الحكومة على المساعدة بتقديم عقود سخية للشركات الروسية في أهم القطاعات المربحة بالبلاد. وفي عام 2018 منحت الشركة العامة للفوسفات والمعادن التي تملكها وزارة النفط والثروة المعدنية شركة “سترويترانغاز” الروسية السيطرة على أهم المناجم. ويملك شركة سترويترانسغاز، تيموشينكو، الذي يعتبر من أكبر أثرياء روسيا وعلاقة الصداقة مع بوتين تعود إلى التسعينات من القرن الماضي، عندما كان الأوليغارش تاجر نفط في سانت بطرسبرغ. ونفى تيموشينكو أنه مجرد واجهة لثروة بوتين، مؤكدا أنهما مجرد زميلان في لعبة الجودو. وفرضت الولايات العقوبات على سترويترانسغاز في 2014 بعد ضم روسيا شبه جزيرة القرم، ولهذا أبعد تيموشينكو نفسه عن عمليات شركته في سوريا والتي تعود إلى بداية القرن الحالي.
وفي عام 2016، قام موظفون بارزون في سترويترانسغاز بالسيطرة على شركة خدمات لوجيستية مجهولة وأعادوا تسميتها بسترويترانسغاز لوجيستيك. وعلى الورق فالمالك لهذه الشركة، شركة مقرها موسكو تقدم بإدارة التجارة لعملاء غير معروفين. وتدير عمليات تصدير الفوسفات نيابة عن الحكومة السورية مقابل 70% من العائدات. وفي عام 2018، باع تيمشينكو شركة تابعة وهي سترويترانسغاز إنجيلين لشركتين وهميتين في موسكو. وبعد فترة قصيرة، حصلت الشركة على عقود لإدارة ميناء التصدير في طرطوس ومصانع الاسمدة الحكومة السورية، مما منح الشركات التي تحمل اسم سترويترانسغاز السيطرة على سلسلة إمدادات الفوسفات في سوريا. وتنفى سترويترانسغاز أي علاقة مع شركة سترويترانسغاز إنجيرينغ التي “تعتبر كيان قانوني منفصل وليس جزءا من مجموعة شركاتها. فقط مختصر مشابه لاسم الشركة” كما تقول المتحدثة باسمها ناتاليا كالينشيفا. إلا أن سجلات الشركات السورية والروسية تظهر أن مسؤولي سترويترانسغاز لعبوا أدوارا مهمة في هذه الشركة، بمن فيهم المدير السابق لسترويترانسغاز إيغور قزق والموظف لدى تيموشينكو، زاخد شاكسوفاروف. وتقول إيرين كينيون الخبيرة في العقوبات ومديرة شركة استشارات المخاطر “فايف باي سوليوشنز” إن تاريخ هذه الشركات يعطيها “ثقة عالية” أنها مملوكة او مدارة من شركة تيمشينكو. و “هناك أسلوب مشترك: خلق طبقة فوق طبقة من الشركات الوهمية للمساعدة في إخفاء الملكية النهائية من اشخاص فرضت عليهم عقوبات”.
تعتبر سوريا أكبر مزود للفوسفات إلى أوكرانيا رغم العلاقات المتوترة منذ دعم النظام السوري لموسكو في حربها على أوكرانيا،وكانت شركات الأسمدة الأوكرانية تشتري الفوسفات مباشرة من النظام السوري حتى 2018
وتعتبر سوريا أكبر مزود للفوسفات إلى أوكرانيا رغم العلاقات المتوترة منذ دعم النظام السوري لموسكو في حربها على أوكرانيا. وكانت شركات الأسمدة الأوكرانية تشتري الفوسفات مباشرة من النظام السوري، إلا أنها لجأت منذ عام 2018، إلى شبكة من الشركات الغامضة. ويصل معظم الفوسفات السوري عبر ميناء نيكا تير في جنوب مدينة مايكوليف، الواقعة الآن على خط القتال مع روسيا في أوكرانيا. ويملك الميناء الأوليغارش الأوكراني ديمترو فيرتاش والذي يملك أكبر شركة منتجة للأسمدة في أوكرانيا “سومخيمبروم”. ومن المفترض أن تكون الشركة هذه مملوكة من الحكومة إلا أن مقربا من فيرتاش يديرها ومدين للأوليغارش بملايين الدولارات، حسب تحقيق لراديو أوروبا الحرة وراديو ليبرتي.
وقال جون لاو، الخبير في روسيا وأوكرانيا في معهد تشاتام بلندن “سيطرة نافذين في أوكرانيا على شركات تملكها الحكومة أمرغير عادي”. وكون فيرتاش أغنى رجل في أوكرانيا ثروته من صفقات مع شركات يملكها الكرملين، بما في ذلك عملية بـ 3 مليارات دولار تقوم على إعادة بيع غاز روسي بأقل من سعره في أوكرانيا وأخذ الفرق. ومقابل ذلك قدم خدمات لتمويل الساسة الموالين لروسيا في أوكرانيا. وشجب في بداية العام الحرب الروسية في مقابلة مع شبكة أن بي سي “لم أكن مؤيدا للكرملين وعليك أن تفهم أنني رجل أعمال وهدفي هو الحصول على المال”. ووصل تأثيره إلى بريطانيا حيث يملك قصرا في منطقة راقية وأصبح متبرعا لجامعة كامبريدج. ويدير معظم تجارته من النمسا، حيث يخوض معركة قانونية منذ 8 أعوام لمنع ترحيله إلى الولايات المتحدة لمواجهة الفساد. وظلت شركة سومخيمبروم أكبر مستورد للفوسفات في أوكرانيا حتى عام 2020 عندما اختفت من سجلات الاستيراد. ومع استمرارها انتاج الأسمدة يبدو أنها اعتمدت على الفوسفات من طرف ثالث. ولم ترد الشركة على عدة اتصالات للتعليق. وفي الفترة الأخيرة، استأنفت الشركة الأوروبية شراء الفوسفات السوري، وعادت إيطاليا للتجارة في عام 2020، وتبعتها بلغاريا وبولندا وإسبانيا في كانون الثاني/يناير. وتزداد التجارة بسبب ارتفاع الأسعار. ومن المتوقع زيادة الطلب على الفوسفات السوري بسبب عرقلة الحرب الأوكرانية لقطاع الأسمدة.
“القدس العربي”