قَبْلَ مُغَادَرَتِهِ الأُرْدُنَّ راحِلًا إلى مَكَانِ إِقَامَتَهِ الجَدِيدِ في فَرَنْسا، أَوْدَعَنِي الصَّديقُ خيري الذّهَبي، المُفكِّرُ والرُّوائيُّ السّوريُّ العربي الذي رحل عن دنيانا في الرابع من تموز/ يوليو 2022، قبل أن تتاح له رؤية شامه “فردوسه المفقود” مرّة ثانيةً، محررةً عزيزةً كريمةً فرحانةً بأهلها وناسها، ترك في عهدتي بعضَ نباتاتِ حَدِيقَتِه المِغناءِ في عمَّان، وَدِيعةً وأَمَانَةً وَمَعنى.
وأنت توارى التراب يا أبا الفارس، دون أن أكحّل عيني بوداعٍ يَليقُ بكَ وبمنجزِكَ الإبداعيّ الإنسانيّ الفذّ الغزير، اسمح لي أن أخبرك أنني أواصلُ ذبَّ الأَذَى عن الوَدِيعَة، أَصُونُ الأَمَانة، وَأَرْفَعُ دَرَجَاتِ المَعنى. واسمح لي أن أتحدّث مع وديعتك هامساً: يا حَبايْبي يا حُشاشةَ قَلْبي، بَعْدَ تَجْرُبَتِي المُتَواضِعَةِ في شُرْفَةِ بيْتي، فَإِنَّ الرِّفْقَ بكنّ، مِنْ أَرْقى مَا يدْخُلُ في قائِمَةِ الطَيِّبَات. واسمح لي أن أقول للناس أجمعين إننا نَحْنُ الشَّآمِيّوّن، نَزْرَعُ، عَادَةً، في كُلِّ وَادٍ نَبَاتًا سَرِيعَ النُّمُوِّ، وَنَحْصُدُ في كُلِّ وَادٍ قَتِيلا. لكنّنا، رُغْمَ الأَنْوَاءِ جَمِيعِها، لَنْ نَحِيدَ عَن دُرُوبِ فِلَسْطين، وَلَنْ نَتَخَلَّى عَن الحُرِّيَةِ وَالحَقِّ المُبِين.
في حاكورة بيتك العمّاني، وتحديداً قرب الدوّار الثاني في جبل عمّان، أحد أعرق جبال عمّان، فإن من زار الحاكورة بعد أقلِّ من عاميْن من إقامتك بيننا، لا يملك إلا أن ينحني إعجاباً، فقد حوّلت أيها الشاميّ المعتق، أرض جرداء إلى حديقة غنّاء.. هكذا أنتم أيها الشاميون في كلِّ مكان وأيِّ زمان.. هكذا أنتم أيها السوريون.. تعمرون الأرض، وتجعلون الحياةَ ممكنةً مهما تكالبت الخطوب.
في عمّان، وفي أم قيس التي تربطك أيها (الجداريّ) بها علاقة خاصة تعود لآلاف السنين، علاقة ترتبط باطلاعك الواسع العميق على منجز أعلام هيلينستيين كبار من طراز لوقيانوس وميلياغروس وأرابيوس، والأخيريْن (وهما بالمناسبة شاعران) من أبناء جدارا أم قيس، أمّا لوقيانوس الباحث والقاص والفيلسوف فمن مدينة سميساط على الفرات في شمال سوريا.
في محاضرة نظمتها لك في أم قيس (115 كيلومتراً شمال العاصمة الأردنية عمّان)، تقول في عشقك لوقيانوس والتقاط خصوصيته وفرادته: “لوقيانوس صديقي الذي أفخر به، إنه المؤسس السوري العظيم. صانع الدهشة التي شكّلت نواة كل دهشة بعدها. فن الرواية لم يبدأ من “دون كيخوته” ثيربانتس بل من لوقيانوس وروايته “قصة حقيقية” التي هي نوع من الفانتازيا الخيالية التي لم يسبقه أحد إليها، وشكّل الكتاب/ الرواية نواة لأعمال بعدها استفادت منها ونهلت من معينها الخصب الذكي. فلوقيانوس هو الرائد والمؤسس والسابق وليس المسبوق”.
وتواصل محاطاً بمآثر المعرفة، وروافع الوعي الرشيد: “هو المؤثر في “ألف ليلة وليلة” وفي “عجائب المخلوقات” للقزويني، وفي سيرة “سيف بن ذي يزن”. وهو المؤثر بالمعري “رسالة الغفران” ودانتي “الكوميديا الإلهية”. وهو أول من وضع لبنة الصعود إلى السماء ومحاورة الأموات”.
في معظم جلساتنا وحواراتنا، كنت من الحاملين بشدّة على الساهين عن المرحلة “الهيلينستية”، المتجاهلين لمنجزها الإنسانيّ المعرفيّ العظيم. كنت تقول: “هذه مشكلتهم، وأنا أُدين نوسانهم عنها، وأحمل على إدارة الأدب العربي ظهره لها، وعدم إدراكه لأهميتها وما أنجزه أسياد تلك المرحلة السوريون “الشاميون” من أدب فذ ليست الفانتازيا سوى بعض تجلياته المدهشة”.
لوقيانوس صاحب كتاب “الربة السورية” ترك للعالم، كما تخبرني، حوالي 88 كتاباً، لم يُترجم منها عربياً سوى أربعة أو خمسة كتب على أكثر تقدير.
ومن آرائك في جلساتنا تلك أن الكتابة الروائية لا تستطيع أن تهرب من التاريخ، ولا تستطيع أن تعلو فوق التاريخ. تستخدم التاريخ لتكشف سوءات الحاضر ولتهرب من استحقاقاته.
وهي، أي الرواية، ليست عملاً يستجيب لأزمة اللحظة، بل هي جهد يكمّل التاريخ ويرمّم نواقصه. “حضارتنا العربية الإسلامية ظلت تتنازعها منذ قيامها وجهتان اجتماعيّتان قيميّتان: الوجهة المدينية التي انتصر لها الرسول فور انتقاله من قرية مكة إلى قرية يثرب عاملاً على تحويل يثرب إلى مدينة وهي التي صار اسمها المدينة المنوّرة، وأما الوجهة المقابلة (المضادة) فهي الوجهة البدوية التي أخذ منها رسول الإسلام منذ البداية موقفاً رافضاً: “الأعراب أشد كفراً ونفاقاً”.
في حواري معك عام 2019، لملحق “ضفة ثالثة” التابع لجريدة “العربي الجديد” القطرية، بحتَ بوجعٍ لا يخفى على صديق: “لن يهدأ بالي حتى يُهدم آخر السجون في سورية، ويُطفأ آخر ضوء في أبنية المخابرات”. رحلت يا صديقي يسكنك هذا الحلم.. وتراودك دمشق التي تعرفها، عندما كان الفلاحون يضعون (اللقاط) الأول من محاصيلهم (الخضروات والفواكه والحبوب) عند فتحة بجانب باب البيت، لعابري السبيل، ولمن يحتاج هذا الخير من فقراء الناس وبسطائهم.
وأما عزائي الوحيد يا صاحب الرحلة الكبرى من دمشق إلى حيفا، فهو أنك رحلتَ وأنتَ تصرخُ بوجهِ الجنرال: “إن مكتبتي السريّة هي مكتبة الأجداد التي لن تصل إليها أيها الطاغية الصغير”.
رحل صانع الخضرة، وبقي ما تركه من أثرٍ، ومن معنى، ومن عناوين رفضٍ للخنوع، وثورةٍ على مكامن الشرِّ في تاريخ البشرية العمياء. لروحه الرحمة والسلام”.
“نداء بوست”