شرط التعايش الحر،ّ الذي تفسده أشكال الاختلافات المصطنعة ذات الطابع الشرعي والسياسي، بديله المساواة في الكرامة، وهي جوهر التّأسيس لسياسة جديدة في الوطن العربي. ومبرر استمرار النظم السلطوية في المنطقة بحجة التهديد الخارجي، ومنطق الأعداء المتآمرين، والإشارة إلى التهديد الإسرائيلي، والأمن القومي، عوامل استنفدت مقوماتها، وأصبحت عاجزة عن تفسير بقاء السلطوية واستماتتها في التشبث بمواقعها، بغض النظر إن كانت هذه الأنظمة التي تدّعي مثل هذه الأمور، قريبة أو منخرطة فعليا في دائرة الصراع الإقليمي أم لا. والمسألة أصبحت مفضوحة، وغير مقنعة، خاصة بعد التقارب الذي يحدث مع كيان الاحتلال إثر موجات التطبيع، والتغييب المتعمد للحق الفلسطيني المقدس.
الاستقرار لا يعوّل فيه على دعم قوى دولية تحترف المقايضة وتخدم مصالحها، بل يُفترض أن يستند إلى التماسك الداخلي، وشرعية المؤسسات المعبّرة عن الشعب
فلسطين تستغيث منذ عقود وما من مجيب، والإدارة الأمريكية بوجهها الديمقراطي، أو الجمهوري تساند بشكل مطلق الكيان الصهيوني في تكريس أطماعه الاستعمارية والعدوانية، من خلال عزل الفلسطينيين عن الحاضنة العربية، وخلق فجوة مع عمقهم القومي، وتحييد دولة عربية تلو الأخرى في اتفاقيات زائفة لا فائدة منها. وبالنتيجة، تتشكل تحالفات جديدة في الشرق الأوسط على حساب المصالح الفلسطينية. وأولويات الدول العربية تغيّرت، وهو ما شجّع سياسة الاستيطان الاسرائيلية بشكل متسارع، وأصبح قتل الصحافيين على مرأى من الجميع من دون أدنى خجل.
وفي الأثناء، موقف النظام الرسمي العربي الذي راهن على القطيعة مع إيران، فاقم مثل هذا السلوك. وكان بالإمكان أن يفتح قنوات تواصل رسمية، ويؤسس لتعامل جدّي بين الدول بشكل يقطع الطريق أمام محاولات بعض القوى الغربية مراكمة العداء الوهمي، والدفع نحو الشحن الطائفي والصراعات المذهبية التي صوّرت إيران عدوّا وإسرائيل صديقا على قاعدة استثمار إمبريالي. ومن السهل أن يحدث ذلك مع وجود أنظمة مفلسة من ناحية التفكير الاستراتيجي، لا تعلم إلى الآن أنّ نبرة العداء المتبادلة بين طهران وتل أبيب، المستمرّة منذ عقود تخدم كلا الطرفين في توطيد نفوذهما الإقليمي. وهي استراتيجية فيها من الوشائج ما يدعم الإبقاء على الخطاب الدعائي ولغة التهديد والصراع بالوكالة، كأدوات ذرائعية لتحقيق أهداف جيوسياسية، ومع الأسف يتواصل عجز الدولة العربية بأن يكون لها دور استراتيجي في تحقيق الاندماج والتّكامل حول هوية مركزية كلية متجانسة، بما يعني الانتماء إلى أرض ودولة وأمّة في كيان سيادي واحد. وهي واقعية تجعل من الصعوبة في مرحلة ما أن يتم ضبط فوضى المجتمع وخلل المؤسسات، الذي يعدّ من تداعيات فشلها في تكوين الدولة المدنية الحديثة في إطار التوحيد القومي. والديكتاتوريات العسكرية في دول عربية معروفة قد أخلصت لهذا النموذج، وجمعت بين الاستبداد المادّي المتمثّل في العنف الذي تمارسه الدولة، والاستبداد بالرأي الذي يتجلّى في فرض رقابة على التفكير وكتم الأنفاس وإقصاء الرأي الآخر. نسيج من الإقصاءات والصراع المحتدم الذي غيّب المشروع الأنبل فكرا وسياسة، والوسائل التي تجعل من الجماعة السياسية جماعة ديمقراطية، كما تقرّها الممارسة النظرية غائبة في الوطن العربي. وقد يتوارى السلطويون خلف النظام الديمقراطي الشكلي لصيانة الاستبداد وخداع الناس. انتقاء معياري يحدث في علاقة بالمنطقة تحديدا، على الرغم من أنّ ظهور المبدأ الديمقراطي الحديث يتنافى والاستغلال الفردي أو الاجتماعي. وليس مهمّا في نظرهم أن لا تكون الديمقراطية متطابقة مع ممارسة ديكتاتورية الجماعة على الأقليات، أو أن تكون على حساب حق المحتجين في الوجود وفي التعبير. وبما أنهم يخدمون مصالح الغير بإخلاص وتفانٍ، يُسمح لهم بأن يحدّدوا كما يشاؤون السلطة داخل الدولة. ويبدو أنّ تربية النظام الحليف والخاضع لمصالح الخارج على حساب المصالح الوطنية أفضل من تربية الجميع على الحرية عن طريق المناقشة، وتشريع قواعد تراقب عمل الحكومات وتحدّ من عشوائيتها. استثمار امبريالي ترك الجسم السياسي للأمة كسيحا مهزوما، وهاجسهم المتواصل هو الحفاظ على النظام الأساسي للمجتمعات غير الديمقراطية، وتجنّب تغييرات على المستوى الشعبي، حتى لا تفقد أمريكا ودول أوروبية استعمارية السيطرة على النظام الاقتصادي والسياسي، فهُم يريدون أنظمة فاسدة متحكّما فيها، تُفسد في أوطانها في سبيل خدمة مصالح الأجنبي، وتحقيق منافع فئوية ضيقة. والدول الاستعمارية بوصفها صاحبة السلطان على الاقتصاد العالمي، تؤثر بشكل واسع في النظام الاقتصادي والاجتماعي للدولة الوطنية، من خلال القروض والتداين الذي تشرف عليه الأذرع المالية للقوى الكبرى. والمفارقة أنّ دول العالم الثالث ملزمة إلى الآن بمراقبة مبادئ الليبرالية الجديدة، التي تتهرّب من الالتزام بها الدول الكبرى، على اعتبار أنّها صُمّمت ببراعة التفاعلات والمخطّطات التجارية داخل إطار من العولمة الليبرالية، حسب حاجات السلطة والأرباح والهيمنة الاقتصادية والتجارية والمالية. ومع ذلك يحق لهم أن يتراجعوا عن الاتفاقيات كما يشاؤون، ويتنصلوا من المعاهدات الثنائية والجماعية، ولا يحق لغيرهم. والمؤسف أن تواصل نُظم الحكم في المنطقة استسلامها اقتصاديا وثقافيا لهذا النظام العالمي المتردّي، الذي يكرّس الاستعباد بشتى أشكاله، ولا تبحث عن استراتيجية موحدة للحدّ من تداعياته. وبالمحصلة، الاستقرار لا يعوّل فيه على الدعم الخارجي من قوى دولية تحترف المقايضة وتخدم مصالحها، بل يُفترض أن يستند إلى التماسك الداخلي، وإلى شرعية المؤسسات التي تعبّر عن الشعب، وتتماهى معه، بعيدا عن الإملاءات الخارجية، وفتح الباب لمصادرة السيادة الوطنية واستقلالية القرار. وعلى الدول العربية العودة إلى تمتين روابطها القومية الجامعة كأمة واحدة، تستطيع أن تواجه تنامي القوميات الأخرى، وطموحها في الهيمنة والتوسع الإقليمي، وتحد من سطوة القوى الرأسمالية التي يقودها النظام الامبراطوري الغربي وحليفه الصهيوني. وهي مسائل ظاهرة للعيان منذ عقود، ومع ذلك لا خطوة إلى الأمام.
يبقى فعل ترتيب كيفيات بناء مجتمعات قادرة على جعل الإرادة والقانون والمؤسسات مبادئ محورية في نظام الحكم، والتخلّص من ويلات الفساد والتسلط والعنف والطائفية والانقسام، وتغيير ما يمكن تغييره، على قاعدة ما هو منشود شعبيا ومأمول جماهيريا، خطوات قابلة للإنجاز إذا ما توفّرت العزيمة والرؤية والثبات والإخلاص لأوطان نالت استقلالها من الاستعمار الكولونيالي، لكنّها لا تزال تعاني مكبلات أخرى من حق الشعوب أن تقول كلمتها فيها.
كاتب تونسي
“القدس العربي”