ثمة مشتركات كثيرة تجمع بين المتعصبين من مختلف معتنقي الأديان، هذه المشتركات تعمل على تغذيتها أصول واحدة، وإن اختلفت ألوانها المذهبية/ القومية/ العرقية، وغير قادرةٍ على التحلل والاضمحلال مهما طال الزمن، لكنها في الوقت نفسه قادرة على التكيف مع متغيرات العصر التكنولوجية/ الرقمية، والمتأمل في هذه الظاهرة، يجد المفارقة واضحة؛ إذ من المتفق عليه، أن التكنولوجيا الحديثة، لم تصل إلى ما وصلت إليه من تطورٍ، لولا الجانب التجريبي الذي بمقتضاه، تطورت العلوم والمعارف جيلا بعد جيلٍ، ذلك الجانب الذي قام على ركيزةٍ أساسٍ، تمثلت في نكران اليقين في ما تصل إليه من نتائج، وعدم الإيمان مطلقا بتلك النتائج في مختلف المجالات أو الأزمان، بما يدع للنسبية الحصة الوافرة في الإمساك بعصا المعارف من الوسط؛ وبسبب ذلك، كان للعلوم والتكنولوجيا أن تتطور وتتنامى، وتتشعب حسب تشعب الحياة وتعقد مجالاتها.. كل هذه الاستجابات التي انطلقت من هذا الجانب «العلمي» لم نجد في المقابل ما يماثلها عند من عكف على معتقده وآمن به إيمانا لا يزعزعه قلق التطور العلمي، الذي تمددت أنساغه في جميع مفاصل الحياة.
ما أريد قوله: إن المتعصبين لأديانهم ومذاهبهم، قد يعذر الذي عاش منهم في عصورٍ سحيقةٍ، حيث لا نور للعلم في زمانهم، مثل ما هو عليه الآن في عصرنا الحالي، فبدافع الجهل مضافا إلى ذلك الانكفاء على الذات، وندرة – أو استحالة – اللقاء بالآخر، والاستفادة من منجزه، وتطوير قدراته بفضل ذلك التلاقح، فضلا عن الشعور بالخوف من المستقبل، كل ذلك، ولعل أسبابا أخرى فاتتنا الإشارة إليها، تبعث المرء على أن يتعصب لدينه – أيا كان ذلك الدين سماويا أم وضعيا- ويتقوقع على ما انبنى عليه وعيه من أفكارٍ تتصل بشعوره الديني، الذي تنامى لديه، نعم، أقول: قد يعذر، وإن كان في ذلك إجحاف لسمة التفكير الحر التي أودعت في الإنسان، دون سائر المخلوقات، أما الذي عاش إرهاصات هذا العصر، وشاهد بأم عينيه التحولات الفلكية لعجلة العلم في شتى المجالات، ولم يبد أي موقفٍ نقدي ينسجم والمتغيرات التي تمظهر بها عصره، من إعادة النظر في الدين/ المذهب الذي انتمى إليه، أو على أقل تقدير – إن قلنا بالجذبة الروحية للأديان ورموزها، وما لها من تأثيرٍ معنوي في عواطفه – مراجعة المدونات التاريخية أو غيرها من مرجعيات صاحبت تاريخ نشوء تلك الأديان، وما حفلت به من أحداثٍ في ضوء العلم والوعي النقدي المعاصر، وتمحيص ما يمكن تمحيصه من ملاحظاتٍ من شأنها تشذيب الزوائد التي لحقت بها، جراء التلاعب والتحريف زيادة أو نقصا، وبيان السليم من السقيم منها، وتمييز ما هو ديني يمس الجوهر، عما تمظهر به من وجوه لا علاقة لها بصميم تلك الأديان.
وهذا ما كان في أديان الشرق، حين شلت القوى الخلاقة التي كان لها الأثر في بناء وعي الإنسان، وارتقائه فكريا «وإذا بتلك الأديان تغدو طقوسا متحجرة، وأداة تفرقةٍ وتنابذٍ بين الشعوب، بدلا من أن تكون أداة جمعٍ وتعاون» (من مقدمة ميخائيل نعيمة لكتاب: هكذا تكلم نهرو) فهذا ما يدعو للعجب أو التأمل في هذه الظاهرة، ولعل ما نشاهده في الديانة البوذية لدى الشعوب الصينية في أقصى شرق آسيا، أو الديانة الهنودسية/ البرهمية لدى الشعوب الهندية في أواسط آسيا، ما يمثل شاهدا على ما نقول، فهي شعوب فيها من الطاقات العلمية الخلاقة، والكفاءات الهائلة في شتى حقول المعرفة، ما جعلها تزاحم دول العالم العظمى، في استحواذها على مكانة الصدارة العلمية التقنية في جميع أنحاء العالم، في الوقت نفسه تجد القطاعات الواسعة من معتنقي تلك الأديان، ممن توفرت فيهم الكفاءات العلمية العالية، لم تتقدم خطوة واحدة في اتجاه معتقداتها، ولم يجروا أي فحصٍ لمرويات تلك الأديان، وكأنها خالصة الدسم «الديني» من أي عوارض الزمن وطوارئه، وكأنهم لم يلتفتوا إلى ما أحيط بتلك الأديان من سدنةٍ لم يخلصوا لها، بقدر ما جعلوها «حصان طروادة» يؤمن لهم المكانة الرفيعة في تلك المجتمعات، ويجعلهم السادة على الدوام، بحجة ما لديهم من معرفةٍ بكتبهم المقدسة التي انحصرت بهم دون سواهم من البشر.
ولم يقتصر التعصب على الدين الهندوسي حسب، بل نجد له تمثيلات واسعة في جميع الأديان السماوية والوضعية، ففي البوذية ـ على سبيل المثال- لا نجد فكرة «تأليه» بوذا إلا تعصبا لم يقل به بوذا الذي لم ينسب دعوته الأخلاقية إلى إله، بل نفى في كثيرٍ من تعاليمه فكرة وجود الإله، فضلا عما كان تميز من عداءٍ «للتعصب الديني.
فمثلا قبل ظهور الديانة الهندوسية، كان تشريع (الركويد) – وهو الذي أتى به الآريون تشريعا لملكهم، حين استولوا على الهند- يمثل متطلبات مرحلةٍ زمنيةٍ بدائية، ثم كتب الهنادكة كتبا أخرى باسم (برهمنا) «وهي تشرح كيفية الأضاحي وما يتعلق بها ولما كان البراهمة هم الذين تولوا القيام بمراسم الأضاحي، فقد كسوا أعمالهم هذه أنواعا من القداسة وأسرارا غامضة واحتكروا هذه الأعمال لأنفسهم دون سواهم من الناس» وحين تحسس أولئك البراهمة ضيق الناس ذرعا بترهاتهم. ولكي لا يخسروا معركة النفوذ والسلطة إزاء العامة، ويخسروا مكانتهم معها، «عمدوا إلى إلباس أعمالهم ثوبا قدسيا مستمدا من عالم الغيب فتوصلوا بعد بحثٍ وتفكيرٍ، إلى فصل الجسد عن الروح» ومن هنا جاؤوا بفكرة التناسخ التي لم تختلف كثيرا عما سبقها، سوى أنها التفاف وتزويق للفكرة السابق.
ولكي «ينال المرء الدرجات الرفيعة في أدوار تناسخه العديدة، لا بد له من إرضاء الآلهة، وإرضاء الآلهة يكون بأنواع من العبادات منها التقدمات والأضاحي ومنها الرياضات، وهكذا فقد عادوا واستلموا زمام الأمور من جديد قبل أن يفلت من أيديهم» (من مقدمة كتاب: منوسمرتي كتاب الهندوس المقدس، بقلم إحسان حقي) وليس هذا فحسب، بل تجد تسويق الأفكار العنصرية التي تدعو إلى الطبقية داخل المجتمع الهندوسي الواحد، ولم يكن ذلك التسويق مستساغا لولا المسحة الدينية التي أتاحت له أن يكون مقبولا على مدار عقودٍ من الزمن، ومن تلك الأفكار الهجينة حسب الذوق السليم، لكنها أصيلة في تشريعاتهم، فكرة «الطبقية» القائمة على الجنس، تلك التي بموجبها ينقسم المجتمع إلى: رجال الدين (البراهمة)/ الجند (الكاشتريا)/ التجار والصناع (الويشا)/ الخدم والعبيد (الشودرا) أما طبقة المنبوذين فلم يدخلوا هذا التقسيم؛ لأنهم في عرف ذلك التقسيم أقل قيمة من الحيوان، ويحرم ملامستهم أو إقامة الصلاة معهم، هذه الفكرة التي قامت على العرق وسيادة الجنس وهي ليست من مقتضيات طبيعة الحياة الاجتماعية، بقدر ما تعد من مقتضيات السيادة والقوة، وهذه التقسيمات كما أشرنا آنفا، جاءت ضمن تشريعات (مانو) الأب الروحي للجنس البشري في العقيدة الهندوسية، التي جاء فيها قوله معددا خلق برهما للكائنات: «ثم خلق البرهمي من فمه، والكاشتريا من ذراعه، والويشا من فخذه، والشودرا من رجله، فكان لكل من هذه الطبقات منزلته على هذا النحو» وربط هذا التقسيم بنص مقدس، ليس إلا لتأمين سريانه في ذلك المجتمع، وإرضاخهم للقبول به، وإلا حلت عليهم لعنة الإله، عفوا قصدي الآلهة!
وبهذا يستمر التدليس بأثوابٍ تتجدد حسب متغيرات كل عصر، وإلى يوم الناس، تجد أتباع هذه الديانة ـ وفيهم من الكفاءات العلمية المشهود لها في مختلف المجالات وعلى مستوى العالم أجمع- لم يقوموا بأي مراجعةٍ نقديةٍ جادة تسعى لتخليص عقيدتهم من أدران تكلست حولها على مدار الزمن. وليس من الهين تفكيك ذلك التعصب المقيت، أو التخفيف من حدته وليس أكثر إيلاما من المآل الذي لقيه المهاتما غاندي في سبيل إنهاء هذه الأفكار، فقد ذهب ضحية العصبية المقيتة التي ترى في كل من يقترب من حمى مقدساتها عدوا ينبغي إسكات صوته، ومن الطبيعي جدا أن يصدر غاندي أو غيره من العقلانيين عن سلوكٍ معتدلٍ في نبذه مثل هذه الأفكار، وإن كانت متلفعة بالدين الذي ينتمي إليه، بمقتضى ما يسترشد به من وعيٍ ودرايةٍ اجتماعية تدفعه لأن يميز الصحيح من الخطأ، ولعل قوله في مذكراته: «تجاربي مع الحقيقة» (وهكذا لم أقبل بالمسيحية كديانة كاملة أو أكمل الديانات، ولا حتى بأن الهندوسية كذلك. وكانت نقائص الهندوسية جلية أمامي، فلو أن فكرة «النبذ» جزء من الهندوسية، فهي إذن جزء فاسد أو غير مرغوب فيه. ولم أستطع فهم سبب وجود الكثير من الطوائف والطبقات. وما معنى قولنا إن الفيدا هي كلمات الإله الموحاة؟ وإذا كانت هي كلمات الإله الموحاة، فلماذا لا يكون الإنجيل والقرآن وحيا من عند الإله أيضا؟) يؤكد لنا نظرته النقدية الواعية التي تملي عليه أن يميل إلى جانب الإنسان أيا كان انتماؤه، والانتصار لمظلوميته دون تعصبٍ لعرقٍ أو لدين أو لغيرها من محددات.
ولم يقتصر التعصب على الدين الهندوسي حسب، بل نجد له تمثيلات واسعة في جميع الأديان السماوية والوضعية، ففي البوذية ـ على سبيل المثال- لا نجد فكرة «تأليه» بوذا إلا تعصبا لم يقل به بوذا الذي لم ينسب دعوته الأخلاقية إلى إله، بل نفى في كثيرٍ من تعاليمه فكرة وجود الإله، فضلا عما كان تميز من عداءٍ «للتعصب الديني. واعتبار التعصب أعدى أعداء الدين» ولعل لأفكاره الأخلاقية في التأمل في طبيعة الحياة والمآل الذي تنتهي إليه، فضلا عن نبذه الطبقية، جعلت منه نبيا في عيون أتباعه ومريديه، بل أكثر من ذلك، فقد «أسرع أتباعه بعد وفاته إلى تحويل تعاليمه إلى مذهبٍ ديني، ولما وجدوا المكان الذي يحتله الله في الأديان فارغا، عمدوا إلى بوذا نفسه، فحملوه ووضعوه فوق عرش الإله الفارغ، إلا أن بوذا ليس بمسؤول عما فعله أتباعه» (مقارنة الأديان: أديان الهند الكبرى، أحمد شلبي). وهذا التعصب ليس إلا وجها من وجوه التصلب الفكري الذي يكشف ضدية المفارقة بين عقل الإنسان في الجانب الديني، وفي الجانب العلمي، ومن يتوقع أن «فلترة» مثل هذه الأفكار الدخيلة بالتعاليم الدينية، تستعصي على من استحوذ منجزهم التكنولوجي كل أرجاء المعمورة، ولم يدعوا صغيرة ولا كبيرة في مجالات العلوم كافة إلا وشاركوا فيها!
وفي الختام، نشير إلى أن تمثيلات التعصب الديني، بعدم مراعاتها شرط العلم وأثره في تطوير ملكات الإنسان الخلقية، والارتقاء به فكريا، فقد تصدر عنها من السلوكيات المقيتة ما لا يقبل به عرف ولا دين، فقد ينزل الاضطهاد بفئة من أتباع ديانة من قبل آخرين، بحجة أن هؤلاء كانت لهم السيادة والقوة ومن ثم الاضطهاد لتلك الفئة، وهكذا تتنفس الكراهية عبر هذا الاضطهاد، وفي هذا السياق صرحت المؤرخة أودري تروشكي في سلسلة تغريدات على موقع التواصل الاجتماعي، في ما يخص اضطهاد الهندوس للمسلمين في الهند، قائلة إن القوميين الهندوس يعتقدون أن «المسلمين اضطهدوا الهندوس لمئات السنين لذا فهم يستحقون أن يضطهدوا اليوم عقابا على ما حدث في الماضي»! وللتنويه أن مثل هذه السلوكيات لا تقتصر على ما ذكرنا من أديان، فسائر الأديان كانت وما زالت تئن من تمثيلات التعصب المقيت، وليس الحال في ما لم نذكره من أديان بأفضل مما ذكرناه من شواهد. والمفارقة التي أشرنا إليها في بدء حديثنا، حين صارت التكنولوجيا ظهرا يركب لممثلي التعصب الديني، فوسائل التواصل الاجتماعي بوصفها أحد مبتكرات العصر الحديث، صارت وسيلة لتنفيس الكراهية والإقصاء بين ممثلي التعصب من مختلف الأديان، وآخر تقنيات السينما الحديثة يتم توظيفها للتنفيس عن العقد الدينية/ المذهبية داخل الدين الواحد، فضلا عن الأديان الأخرى، وهذا ما يدعو للتأمل والبحث جديا عن حلول لهذه الظاهرة المقيتة.
كاتب عراقي
“القدس العربي”