عام 2016، وبعدما بدأ عمل “أوبر” في مصر يتوسّع، اعترض السائقون العموميون ونظّموا اعتصامات احتجاجاً على عدم قانونيّتها.
في خضمّ الصراعات والمناكفات بين السائقين العموميين و”أوبر”، تدخّل ديفيد بلوف، المستشار الرئيسي للرئيس التنفيذي لـ”أوبر” حينها، والذي سبق أن كان سياسياً في الولايات المتّحدة حيث كان عرّاب الحملة الانتخابية للرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما.
اعتقدت إدارة “أوبر” أنّ الحكومة المصرية وراء جنون سائقي الأجرة، خصوصاً أنّ الموضوع اتخذ طابع التهرّب الضريبي والعمل غير القانوني، علماً أن “أوبر” كانت تعمل بأريحية قبل عام 2016 ولم يتدخّل بعملها أحد.
حين علت الأصوات، أصبح التدخّل الرسمي ملحاً لضبط الأمور، لذا كان بلوف الخيار الأمثل للتفاوض مع الحكومة المصرية نظراً لعمله كسياسي في إدارة أوباما وقدرته على التأثير. عقد هذا اللقاء بين الوزراء المعنيين وبلوف في شباط/ فبراير 2016، وأوضح خلاله بلوف أنّ “أوبر” مستعدّة لدفع الرسوم والضرائب المتوجّبة عليها مع تأكيده ضرورة التعديل في القوانين المتعلّقة بالنقل العام والنقل المشترك، لأنها غير واضحة.
بعد الزيارة، بدت الأمور أكثر مرونة، بحسب ما كشفته الرسائل البريدية من وثائق “أوبر”. في شهر أيار/ مايو 2016، تفاوضت “أوبر” مع الحكومة المصرية من أجل تيسير عمل الشركة وسائقيها عبر إعطائها نوعاً من رخصة “مخفّفة”.
في الوثائق نفسها، أوضحت إدارة “أوبر” في بريد إلكتروني مرسل من مسؤول السياسية العامّة غسّان حداد أن الدولة المصرية وافقت على “الرخص المخفّفة” لكنها تريد حماية سائقي الأجرة، لذا قد يستغرق الموضوع بعض الوقت.
استكمالاً لنتائج الزيارة الإيجابية لبلوف إلى مصر، جاء في الوثائق الداخليّة ما يلي: “قام ديفيد بلوف بزيارة مصر حيث عقد اجتماعات ناجحة مع وزير الاستثمار والنقل. استضاف فريق العمل جلسة من 600 شخص على متن الطائرة وعقد حدثاً في الجامعة الأمريكية بالقاهرة وغرفة التجارة الأمريكية. أسفر عن تشكيل الحكومة لجنة مشتركة بين الوزارات لمناقشة اللوائح التنظيمية للصناعة. صدر إعلانان خلال زيارة بلوف، الأول أن “أوبر” والحكومة المصرية ستديران مبادرة التمكين الاقتصادي بالشراكة مع منظمة غير حكومية تعليمية وبنك لتمويل المركبات؛ والثاني، كان إعلاناً يسلط الضوء على مشاركة “أوبر” مع المنظمين وقادة الأعمال”.
اللافت أنّه برغم وعود بلوف بدفع كافّة الضرائب، إلّا أنّ التهرب الضريبي استمر بدليل زيارة مصلحة الضرائب الى مكاتب “أوبر” في القاهرة. وعندها اعتقد حدّاد أنّ النبرة ستكون عالية من قبلهم حيث سيتشدّدون على أي جزء من العمل سيفرضون الضرائب. وفي الإطار المالي أيضاً، طلبت الحكومة المصرية من “أوبر” أن تحصر تحويلاتها المالية داخلياً خشية من إخراج العملة الخضراء من البلاد.
ردّ أوبر
وصل إلى “درج” ردّ من “أوبر” الشرق الأوسط مرسلاً من مديرة التواصل في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نورهان علي ما يلي:
“عندما بدأت “أوبر” منذ أكثر من عقد من الزمان، لم تكن أنظمة النقل الجماعي موجودة في أي مكان في العالم. عند التوسع في مناطق جغرافية جديدة، تتعامل جميع الشركات تقريبًا مع الحكومات وتعتمد على خدمات ومشورة الخبراء لفهم ظروف السوق المحلية والإطار التنظيمي والمشهد السياسي والإعلامي بشكل أفضل. كانت هذه أيضًا استراتيجيتنا في الشرق الأوسط لمساعدتنا على تحسين نهجنا لدخول السوق.
زار ديفيد بلوف مصر والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية كجزء من جولته في الشرق الأوسط بصفته رئيسًا للسياسة في أوبر في ذلك الوقت. كما هو الحال مع أي زيارة تنفيذية ، حددت “أوبر” اجتماعات مع أصحاب المصلحة المحليين في السياسة لمناقشة اللوائح المحتملة التي تتوافق مع الصناعة، نظرًا لعدم وجود أطر تنظيمية في معظم أنحاء العالم ، لا سيما في الشرق الأوسط. كانت الحكومات مهتمة بمعرفة كيف يمكن للحلول المبتكرة أن تساعد في تحسين قطاعها.
الضرائب:
تلتزم أوبر بالامتثال لقوانين وأنظمة الضرائب أينما تعمل، بما في ذلك مصر ولبنان.
بين كالانيك وخسروشاهي
عام 2017، قدّم ترافيس كالانيك الرئيس التنفيذي لـ”أوبر” استقالته، لتبدأ حقبة جديدة من “أوبر” في المنطقة عموماً ومصر خصوصاً. تم تعيين الإيراني- الأميركي دارا خسروشاهي رئيساً تنفيذياً للشركة، وأحدث نقلة نوعية اذ لوحظ الاختلاف بين حقبته وحقبة كالانيك في التعاطي مع الدولة المصرية.
تطوّر المسار القانوني، تجلّت الحلول بأول لقاء جمع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بخسروشاهي في نيويورك في شهر تشرين الأوّل/ أكتوبر 2018 وأبدى السيسي امتنانه لمثل هذه الاستثمارات في البلاد وحثّ على تطوير عمل “أوبر” وتوسّعها في مصر.
في العام نفسه، كان من المفترض أن تمثل “أوبر” أمام المحكمة العليا في مصر بعدما رفع 42 سائقاً للأجرة دعوى قضائية ضدّها باعتبارها غير قانونية وتستخدم السيارات ذات اللوحة الخصوصية لتوظيفها مع الشركة.
فاز حينها السائقون العموميون، وأصدرت المحكمة قراراً بإيقاف عمل شركتي “أوبر” و”كريم” فوراً، لكن “أوبر” رفضت ذلك وقالت إنّها ستكمل عملها بشكل طبيعي في القاهرة. إنما قبل موعد المحكمة الأخيرة، أصدر مجلس الدولة قانوناً يسمح لشركات نقل الرّكاب المشترك، مثل “أوبر”، بالعمل بشكل طبيعي لتيسير أمورها وبذلك أُبطل قرار المحكمة.
بعدها، وقّع السيسي على مرسوم يسمح لشركات النقل البرّي ومنها شركات نقل الرّكاب المشترك، أي شركة “أوبر” بالعمل بشكل قانوني.
المفارقة أنّه في السابق، عندما كان كالانيك رئيساً تنفيذياً للشركة، رفضت الإدارة إرساله للقاء السيسي لأسباب غير معروفة، ولم تلتقِ حينها الإدارة مع رموز من الدولة المصرية إنما اقتصر بداية على شفيق جبر، ولاحقاً محاولة للقاء وزير الخارجية سامح شكري وممثّل مصر في الأمم المتحدة عمرو أبولطّة. التعويل الأكبر كان على شكري، إذ أوضحت إحدى الوثائق أنّ صاحب القرار لن يكون أبولطّة إنّما هو مجرّد وسيلة للوصول الى شكري. فيما في عهد خسروشاهي، التقى الأخير مع السيسي أكثر من مرّة لتكون الأخيرة عام 2021 حيث كان اللقاء افتراضياً لمراعاة الظروف الصحيّة المتعلّقة بوباء “كوفيد- 19”.
خطف وسرقة مقابل حملات نسوية
تعامل “أوبر” يناقض مبادئها، فقبل انطلاقها في مصر عملت على حملة رقميّة تحت هاشتاغ taxi horror stories، على وسائل التواصل الاجتماعي تهدف للاستماع لقصص النساء وتجاربهن السيئة مع النقل العام في مصر، تمهيداً، بحسب وثائق “أوبر”، لطرحها كبديل آمن للنساء. ساد ذلك في العام 2016، واتضح بعدها أن النساء يفضلن استخدام “أوبر” على النقل العام كونها أكثر أماناً.
يخضع السائقون لدورات تدريبية مع الشركة لكيفية التعامل مع الركّاب والنساء على وجه الخصوص منعاً للتحرّش أو أي نوع من الاعتداءات.
في مقابل ذلك، وفي أواخر العامين 2019 و2020، تحدّث بعض المستخدمين لشركة “أوبر” في مصر على مواقع التواصل الاجتماعي عن محاولات سرقة وخطف تعرّضوا لها من قبل سائقي الشركة. القصّة الأولى ظهرت في كانون الأول/ ديسمبر 2019، حين قام أحد السائقين بخطف فتاتيْن بعدما طلبوا سيارة عبر التطبيق، ليلغي السائق الرحلة في منتصف الطريق.
أخرج السائق ابن شقيقته من صندوق السيارة، وحاولا سرقة الفتاتين، وعندما قاومت إحداهما، طعنها السائق في ظهرها وأخذ المال وهرب مع ابن شقيقته. تحوّلت القضية الى النيابة العامّة في مصر واعترف السائق بفعلته، لكن لم يظهر أي اعتذار من قبل شركة “أوبر” على الحادثة وبقي الصمت من جهتها سيّد الموقف وكأن شيئاً لم يكن.
بلبلة إضافية على سجلّ “أوبر” في مصر بعدما نشر أحد الركّاب على مواقع التواصل الاجتماعي تعرّضه للسرقة من قبل أحد السائقين عبر التطبيق، وشرح أنّه وضع رقم البطاقة الائتمانية كما يفعل كلّ مرّة خصوصاً أن التطبيق يسمح بهذه الميزة كنوع من تسهيل الأمور المادية. فتفاجأ الراكب أنّه سحب من رصيده ما يقارب 3000 جنيه مصرية ( ما يزيد عن 500 دولار أميركي حينها).
قدّم الراكب شكوى الى الشركة، وأرسل العديد من الرسائل عبر التطبيق ولكن لا حياة لمن تنادي، حسب ما نشر. وبعدما نشر قصّته، تفاعل معه العديد من الأشخاص لوقوعهم في الفخّ ذاته، مؤكّدين أنّ “أوبر” لم تكترث لأي شكوى.
الاهتمام الإعلامي
في مقابل إهمال الزبائن، توضح وثائق “أوبر” الاهتمام الإعلامي والجهد الذي تبذله هذه الشركة لتبييض صورتها إعلامياً للتسويق لها. وتهتم الشركة بالتواصل مع الإعلاميين من جهة، والباحثين الأكاديميين من جهة أخرى.
في إحدى الرسائل البريدية من وثائق “أوبر”، بدا اهتمام الإدارة بالتواصل مع صحفية من جريدة “النيويورك تايمز” الأميركية: “نفكّر في السفر إلى مصر برفقة صحافي(ة) ومصور(ة) بهدف روي قصّة سائق الأجرة وطرح الجانب الاقتصادي للموضوع”. واللافت أنّ المرسل كان ديفيد بلوف في العام 2016 أي مع بداية الخلافات بين سائقي الأجرة و”أوبر” وقبل توجّهه إلى مصر للتفاوض مع الحكومة.
من جانب آخر، توجّهت “أوبر” أيضاً إلى باحثين أكاديميين لإجراء دراسة عن أهمية عمل “أوبر” في مصر وتأثيرها الإيجابي على الاقتصاد المصري. نجلة رزق، الناشرة للدراسة، أوضحت في أسفل الدراسة أنّ دراستها نتيجة اتفاقيّة مع “أوبر” وتمّت الدراسة في الجامعة الأميركية في القاهرة. اهتمّت “أوبر” بالترويج لنفسها على الصعيد الأجنبي، والأميركي تحديداً، ويظهر ذلك واضحاً من خلال اختيارها الإعلام الأميركي (نيويورك تايمز) وجامعة أميركية للتسويق لنفسها.
غطّت الدراسة أيضاً الجانب العمّالي لتؤكّد أن السوق المصري كان مختلفاً عن الأسواق الأخرى كالفرنسية والأميركية. على سبيل المثال، قارنت الدراسة نسبة السائقين الذين يعتمدون على “أوبر” كمصدر رزق وحيد، مع آخرين يعملون في مهنٍ أخرى. تبيّن من خلال الدراسة أن 56 في المئة من السائقين في مصر يعتبرون “أوبر” الركيزة الأساسية لقوتهم اليومي.
تستمر “أوبر” بالعمل بشكل طبيعي في مصر، وكانت قدّمت الأوراق الرسمية لتسجيلها بطريقة قانونية في العام 2020، أي بعد نحو 6 سنوات من بدئها في مصر، للسماح لها بالعمل بشكل قانونيّ. وتطوّر عمل الشركة في مصر، فهو اليوم لم يعد مقتصراً على سيارات الأجرة بل يشمل أيضاً الحافلات، “التوك توك”، و”السكوتر”. ووسّعت الشركة رقعة عملها فتخطّت حدود القاهرة وحطّت رحالها في الإسكندرية، طنطة، الجونة، المنصورة، والزقازيق، ودمنهور.