منذ عقود احتلت التجاذبات بين إسرائيل وإيران مكانة مركزية في الصراعات المحتدمة في الشرق الأوسط، رغم عدم وجود حدود مشتركة بينهما، إلا أن تلك التجاذبات لم تصل حد الاشتباك، أو الاحتكاك، المباشر إلا مؤخرا، وبمبادرة من إسرائيل في معظم الأحوال.
لكن ماهي طبيعة هذا الصراع؟ ولماذا جرى ضبطه طويلا؟ وما ارتداداته على الطرفين المعنيين وعلى الصراعات المحتدمة في الشرق الأوسط؟
ثمة أسباب عديدة للتجاذب، والتصارع، الإيراني ـ الإسرائيلي، لكن أهمها يكمن في إثنين:
أولا، محاولة إيران تملك قدرات نووية، الأمر الذي يتعارض مع استراتيجية إسرائيل المتعلقة باحتكار التسلح النووي في الشرق الأوسط. بيد إن اللافت هنا أن إسرائيل تساهلت مع البرنامج النووي الإيراني (والولايات المتحدة كذلك!)، على عكس ما فعلته إزاء البرنامج النووي في العراق، الذي كانت أنشأته فرنسا للأغراض السلمية قرب بغداد، إذ قامت إسرائيل بتدميره في غارة جوية (في عملية اوبرا التي تمت في 7/6/1981)، اللافت، أيضا، ان ذلك أي تدمير المفاعل النووي العراقي تم بعد اندلاع الحرب العراقية ـ الإيرانية (1980ـ 1988). أيضا بات معلوما أن غزو الولايات المتحدة للعراق (2003) تم بدعوى سعيه لحيازة قوة نووية، وهو ما تبين فيما بعد عن مجرد ادعاء، فيما هو، بحسب التقارير الدولية، حقيقة ثابتة في وضع إيران!
ثانياً، لا شك أن ثمة مشكلة لإسرائيل مع تزايد نفوذ إيران في المنطقة، لكن يمكننا هنا ببساطة ملاحظة أن هذا النفوذ بالذات تأتّى أساسا عن تسهيل، أو سماح، الولايات المتحدة (وضمنا إسرائيل) بهيمنة إيران على العراق (بعد غزوها له واسقاطها نظام صدام 2003)، وذلك عبر تمكين أذرعها الميلشياوية من التحكم به وبموارده، في ظل حكم بول برايمر (2003ـ 2004)، الذي تم في عهده حل الجيش العراقي وكل الأجهزة الأمنية (وليس تسريح فئة كبار الضباط فقط)، كم تم ترسيم البنية الطائفية للنظام. بمعنى أخر فقد تم في ذلك الوقت، بعد اسقاط نظام صدام، تسليم البلد على طبق من “فضة” للميلشيات الطائفية التي تتبع إيران، وحكم نوري المالكي العراق بين 2006ـ 2014، حيث استثرى في عهده الفساد والانقسام الطائفي في البلد وصعود “داعش. لكن الأمر لم يقف عند التسهيل لإيران في العراق فقط، إذ تم التساهل مع تزايد نفوذها في لبنان (عبر حزب الله)، ومع تدخلها العسكري في سوريا، بحيث أضحت إيران الأكثر نفوذا في منطقة المشرق العربي، أكثر بكثير من تركيا وإسرائيل.
أما بخصوص ضبط الصراع مع إيران، ودلالات ذلك، فيمكننا ملاحظة أن النفوذ الإيراني كان من آثاره تحطيم بني الدولة والمجتمع في المشرق العربي، وهذه هي حال العراق ولبنان وسوريا (فضلا عن اليمن)، وهذا بالضبط ما يفسر السكوت، أو السماح، الإسرائيلي (والأمريكي) لإيران، وهو أيضا ما يفسر التحول الحاصل في السنوات القليلة الأخيرة في سياسات إسرائيل (والولايات المتحدة) إزاء إيران، بعد أن استنفذت دورها، أو انتهى الاستثمار الإسرائيلي (والأميركي) بدورها، بعد أن أضحت إسرائيل الدولة الأكثر استقرارا وقوة في الشرق الأوسط، وغاب شيء اسمه الجبهة الشرقية، وباتت إسرائيل في محيط استراتيجي امن ربما لعقود.
هكذا، فإن هذا الوضع هو الذي يفسر محدودية الاحتكاك بين إسرائيل وإيران، وبالعكس، إذ إسرائيل تريد مجرد ابعاد إيران عن حدودها مع سوريا بمقدار مئة كلم، وبعدها لا يهمها ما تفعله في سوريا أو العراق، وهذا ما كانت اوكلته لروسيا لإفهام ايران بهذه المعادلة. كما تريد إسرائيل وقف تدفقات السلاح إلى حزب الله (سيما الصواريخ والمسيرات)، ولايهمها أي سلاح اخر، كما لا يهمها ما يفعله حزب الله في لبنان، بمعنى أن وجود النفوذ الإيراني في سوريا والعراق ولبنان لا يهم إسرائيل، طالما ظل بعيدا عنها، لأنها ترى فيه استمرارا لحال الاضطراب والتصدع في هذه البلدان، بفعل إيران، كأن إيران تقوم بالشغل “الوسخ” بدلاً منها.
وكما نشاهد هذه الأيام فإن الاستثمار الإسرائيلي، وتاليا الأميركي، في إيران كان له انعكاساته الإيجابية عليهما، بهذا التحول في عديد البلدان العربية نحو تطبيع العلاقات مع إسرائيل، بل ونحو الاستعداد للانخراط في منظومة إقليمية سياسية واقتصادية وأمنية معها، بدعوى صعود خطر إيران، ولعل هذا ما يمكن أن تشهده، أو تمهد له، الزيارة المقبلة للرئيس الأمريكي جو بايدن إلى بعض بلدان الشرق الأوسط، علما أن ذلك لن يقدم أو يؤخر في شأن واقع إسرائيل كدولة استعمارية وعنصرية في المنطقة، كما لن يقدم أي شيء على صعيد الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
يستنتج من كل ذلك أن إيران، في سياساتها الخارجية، أضرت بذاتها، كما أضرت بعلاقات الجوار بينها وبين الدول العربية، وهي في كل ذلك قدمت خدمة كبيرة لإسرائيل من مختلف النواحي. وكما نشهد فإن كل ما تبتغيه إيران هو تحويل ميلشياتها في المنطقة إلى مجرد ورقة لتعزيز نفوذها الإقليمي، وليس لمواجهة إسرائيل، بدليل إن إيران لا ترد على الضربات التي توجهها إسرائيل لها، وهي تبتغي من برنامجها النووي تحسين، وتحصين، مكانتها على الصعيدين الإقليمي والدولي، وهذا ما تتفهمه إسرائيل، والولايات المتحدة، ما يفسر تساهلهما مع إيران في الجانبين المذكورين، بل وتوظيفهما لهما (الورقة النووية والميلشيات الطائفية المسلحة) لابتزاز الأنظمة العربية؛ هذا مع ملاحظتنا كل ذلك الصبر الأمريكي (والإسرائيلي) في التفاوض مع إيران (مقارنة بما حصل مع العراق (1981 و 2003).
هذا ما يدور حتى اليوم، وهذا هو معنى التساهل، أو الاستثمار، الأميركي والإسرائيلي في إيران، ومع نفوذها في الشرق الأوسط (واليمن).
والمعنى أن ما فعلته او ما تفعله إسرائيل بفلسطين والفلسطينيين لا يبرر أو يغطي لإيران ما فعلته أو ما تفعله في سوريا ولبنان والعراق، والعكس صحيح أيضا.
“النهار العربي”