لا توجد طريقة منصفة للكتابة عن قصص محمد خضير، غير إعادة اقتباسها وتنزيلها على الورق، وقراءتها جهرا أمام الأصدقاء، ومحاولة بثّها بين الجموع، مثلما كانت الحشود تحفظ ملحمة كلكامش عن ظهر قلب، فالملاحم في جهات الأرض لم يحملها لنا القرطاس والقلم، وإنّما حفظ العامّة لها في المعابد والأسواق، وأوصلتها إلينا حناجرُ وقلوبٌ وألسنةٌ.
يقول الكاتب الأمريكي باري لوبيز مؤلف كتاب «حول هذه الحياة»: يحتاج الشخص أحيانًا إلى قصة أكثر من الطّعام للبقاء على قيد الحياة، كما أن القصة العظيمة تجعلنا نفهم أمورا لم نفهمها أبدا من قبلُ. تشبه قصّة (احتضار الرّسّام) مثلا، جسرا يقودك الكاتب عبره من يدك، بهدوء وحنان عجيبيْن، وتسيران في طريق تؤدّي إلى قارة غير معروفة، تتجوّل فيها، وتحمل منها متاعك، وعندما تعود لا يعرفك حتى كلبك، أما الزوجة فهي دائما في انتظارك. «إني لك… لك بثيابي وطراوتي وجهلي ودمي، حين تمرض وحين ترغب وحين تحضر وحين تغيب» تقول الزّوجة في قصة (منزل النساء).
– وماذا يقول الزوج؟
– كلّ الخدع الجميلة.
سؤال: ما الذي جعل قصص محمد خضير -خصوصا في مجموعتيه القصصيتين «المملكة السوداء» و»في درجة 45 مئوي»- تختلف شكلا وجوهرا عن تلك التي كتبها جميعُ العرب؟ هل يحتاج الكمان إلى أعذار لموسيقاه؟ دعكَ من الخيال، أولا، وثانيا فإن سؤالك يحتاج إلى بحث نقدي طويل ربما فتحت لك آلهة الحظ بابا يؤدي إليه. في كتابه الذي ألّفه عن مدينته البصرة يصف أديبنا زيارته إلى محطّة للقطار في مدينة أور التّاريخيّة: «خرجتُ في تلك اللّيلة من القاعة المزدحمة الدّافئة إلى فناء المحطّة المندمجة مع اللّيل البارد. عربات حمولة واقفة، ونجوم شديدة اللّمعان، ليلة صافية هادئة، فاعترتني هزّة عنيفة من الوحدة والغربة. عندما عدت إلى القاعة كانت أغاني المذياع تطحن القلوب الجلموديّة وتشعل أوار الحبّ في «أور» بطقس لا بدّ من أن المدينة السومرية قد شهدت مثيله يوما في قاعة المعبد الذي بُنيت المحطّة على أنقاضه. أؤكد لكم أن تلك القاعة كانت أحد المصادر الحية لرؤيتي العراقية التي أنتجتُ بمعونتها قصصي الأولى». انتقل السّحر القديم عبر الزمان، وفي مثل البغتة صارت الفِتنة القديمة جديدة، كما أن سحر الفنّ لا يتبخّر ولا ينفد، وإلاّ ما كان سحرا وفتنة وفنّا. ألهذا السبب لم يكن بورخيس مهتمّا كثيرا لحادث حرق مكتبة الإسكندريّة، فالمادّة ليست وحدها التي لا تفنى ولا تتجدّد؛ المشاعر والعواطف والأفكار هي الأخرى لا تنفد، وهذه مادّة الفنّ، ويعرض هذا كلّ ما فيه من جمال، فهو مقدّرٌ له أنّه لا يموت، ولا يتخلّق من العدم.
كانت المرة الأولى التي التقيتُ فيها الأديبَ في شتاء بصْريّ في التسعينيات، ولفت نظري وهو يردّ على تحيّتي، صوته، وخِلتُ أني أراه يتدفق من فمه سائلا كريما، وتتبلّل به يديه التي تصافحك، فتشعر عندها بأن حديثه يأتي من جميع أنحاء جِرمه، من هامته نزولا إلى قدميه، ويجري الصوت بعد ذلك على الأرض. أينما حضر يُعلن عن محمد خضير صوته. يقول عنه الشاعر حسين عبد اللطيف:
«روحي
يا روحي
يا روحي
كم من فلفلْ
أُطعمَ
هذا البلبلْ»
حتى لو كان يجلس صامتا، يُخيّل إليك أن صوته الدافئ يصلك في الواقع أو أن صداه يبلغك من الذاكرة. ثم تكرّرت اللّقاءات، ولم أره مرة خالعا جلباب وقاره غالي الثمن والنفيس والمفصّل عليه بمقدار.
إذا ذُكر بدر شاكر السيّاب، تذكَّرنا حتما جيكور وغيلان ووفيقة، وإن قيل محمد خضير لا نرى أمامنا سوى مدينة البصرة. في سنوات الحرب العراقية الإيرانية، وكانت المدفعيّة الإيرانية تنوش المدينة، ونزح منها أكثر من ثلاثة أرباع أهلها، ورغم ذلك لم يغادرها الكاتب، وكان يسير مرة في الشّارع وسقطت قذيفة على بُعدِ أمتار قليلة: «لم تكن المفاجأة كاملة، إذ توقّفت خطاي عندما سمعت الصّفير المقبل للقذيفة. بعد وهلة من الانفجار، هبّ سرب طيور نورس من ضفة النهر في كتلة واحدة بيضاء، محلقا… ولم يحطّ ثانية إلاّ بعد أن ابتلعت الأرض والبيوت والمياه جرعة الانفجار، وتبدّدت رائحة البارود». عاد القاصّ بعد ذلك مباشرة إلى بيته، وكان يتردّد في جنبه ألف سؤال عن الوشيجة التي لا تنفصم بينه وبين المدينة، ولا يقوى على كسرها حتى البارود والدم… «احتجتُ إلى عين غريبة كي أعرف مدينتي معرفة أكيدة، وكما أني لازمتها كي أكتشفها، فقد نكرتها كي أعرفها. هدمتها كي أبنيها، استبدلتُ بها يوتوبيا كي أحتفظ بحقيقتها الأصلية».
كتب محمد خضير هذه اليوتوبيا في ملحمة سرديّة سماها «بصرياثا» لكنه لم يهدم المدينة، وإنما أعاد بناءَها حجرا فوق حجر، وقطرة ماء مع قطرة، وتمرة جنب تمرة. «ولنا أن نستخلص من مشاكلة نواة التّمرة لعضو الجنس في الأنثى وشيجة جوهرية، إذ أنّهما الأصل في استمرار النّوع وتجانسه. وما بين النّخل والحيوان من إبل وشياه، والإنسان ذكرا وأنثى، شراكةٌ في الأعراض المتبدّلة وصفات الخلق الثّابتة. والنّخلة في هذه الشّراكة أصل وغيرها من المخلوقات توابع». النّخلة هي الأصل لا لأنها تطعمنا الرُّطَب، لكن لأنها شجرة البصرة، وهذه نرضع منها حليب الحكايات. ألم نقل إن المرء يحتاج إلى القصّة أكثر من الطّعام كي يبقى حيًّا؟
وأختتم المقال بهذه الحكاية:
اشتهرت المدينة بصنع الخفاف اليمنية، ثم شُيّدت معامل الأحذية، وبدأت هذه المهنة بالانقراض تدريجيا. إسكافيّ واحد من بين العشرات بقي يعمل في دكّانه، وتقادم به الزّمان حتى عَشِيَ بصرُه وفقد إحساسه بالوقت والنّاس. استمرّ في العمل ليلا نهارا وهو يخصف نعلين لنفسه استعدادا للرّحلة على الطّريق الوعرة إلى الآخرة. لم يكن يتوقّع أن يأتيه من يطلب النّعل، حتى كانت ليلة داجية لفّت السّوق بحندسها، ووفد على الدكّان رجل مغبرّ يرتدي كفنا، وكان قادما من عالم الموتى. جلس على الدكّة الواطئة، وانتظر حتى فرغ الإسكافيّ، فانتزع النّعل من يديه وهوى بها على رأسه فكانت ضربة قاضية ماحقة، ثم اختفى بالنّعلين.
لن أخبركم بنهاية القصة، وآثرتُ أن تقرؤُوها في كتاب البصرة الذي أعاد محمد خضير فيه بناء مدينته بيتا بيتا، ونهرا نهرا، وغابة نخيل جنب أخرى…
كاتب عراقي
“القدس العربي”