سوف تفكر طويلا قبل أن تجيب عن هذا السؤال: هل هناك نموذج إصلاحي يحمله تيار أو يؤمن به الناس في العالم السني في اللحظة الحالية؟
الجواب بالتأكيد هو: لا. إننا بالفعل نعيش وضعا استثنائيا نادرا ما يحدث في تاريخ المسلمين. وفي أكثر لحظات ضعف السنة لم تخل منازلهم من فكرة إصلاحية يجتمع حولها الناس، وتوجه نظرهم إلى المستقبل ونحو ما ينبغي أن يكون.
الفكرة الإصلاحية ليست أفرادا ومبادرات هنا أو هناك، وليست مجرد موقف لعالم أو سياسي أو مثقف حول ما يجري في المنطقة، لكنها تيار اجتماعي مؤمن بجدواها، مبادر إلى الوصول بها إلى أقصى الحدود في التطبيق الواقعي.
منطلق الشعور بالضياع
تنشأ الفكرة الإصلاحية لدى جيل سني معين من منطلق الشعور بضياع شيء كبير، قد يكون هو ضياع الوحدة الإسلامية أو السلطان أو الأوطان والقيم.
وقد تنشأ من منطلق مواجهة تهديد خارجي كبير، أو بسبب الخوف على مستقبل الإسلام وحضوره في العالم. وفي كل ما ذكرنا لابد من الانتباه إلى أن أهم كلمة هي “الشعور”.
إذا كان امتلاك الأجيال السنية لعامل الشعور أمرا بالغ الأهمية، فإن هذا العامل المحفز يبدو في أدنى مراتبه الآن. لقد تحول إلى حالة من التماهي مع كل المخاطر، واستسهال للتحديات. الشعور بالتحديات ليس حالة ذهنية عامة في العالم السني حاليا، بل مجرد حالات محدودة لمجموعات صغيرة أو أفراد. ويكفي أن نعلم حجم عدم الاهتمام في العالم السني بقياس سيكولوجية الجماهير السنية واتجاهاتها، لتقديم نوع من المعرفة حول طبيعة الشعور بالانتماء إلى الفكرة السنية وكيفية استجابتها للمخاطر.
إن الدراسات النفسية من هذا القبيل أهم بكثير من آلاف التحليلات اليومية في ميدان السياسة والثقافة. مفهوم الانتماء إلى السنة والأمة رغم كل دلالاته الدينية، إلا أنه في حاجة إلى النظر من زوايا علوم النفس والاجتماع، بقدر ربما يفوق تناوله من زاوية الدين.
الأمة ليست فقها أو سياسة أو فكرا وتاريخا فحسب، لكنها وعي وشعور تجاه هذا الاجتماع الكبير. إن زعم امتلاك الأمة الآن خيارات إصلاحية حقيقية ينطوي على كثير من المغالطات. ولابد قبل ذلك من التأكد أولا من أن المسلمين عموما يتصرفون الآن كأمة، ووفق مفهوم الأمة بكل ما يقتضيه من مراتب الإجماع ووحدة الرؤية والعصبية الجامعة، وهو ما يبدو غير متحقق. نعم إن مفهوم الأمة كباقي المفاهيم تعرض لجرح كبير، وأصبح توظيفه واستعماله افتراضيا وجزافا من قبل المثقفين أمرا خاطئا، تتولد عنه تفسيرات مغلوطة لواقع المسلمين. لا شك أن تصرف المسلمين باعتبارهم أمة هو نفسه فكرة إصلاحية، إن لم يكن أكبر المشاريع الإصلاحية التي يمكن تحقيقها.
الإصلاحيون السنة شخصيات ورموز تتسم بكثير من الجدلية التي خلقت من الانقسام أكثر مما صنعت من التوافق.
إن الأفكار الإصلاحية لم تتمكن في القرنين الماضيين من النفاذ حقيقة إلى نفوس الجماهير السنية، بسبب ضعف المكون الشعوري في الفكرة الإصلاحية السنية، مقارنة بالإصلاحية الشيعية التي تتقن هذه اللعبة. الناس لا يتصرفون انطلاقا من الأسس النظرية العقلية المحضة، التي تحاول النخب إقناعهم بها.
وهذا هو السبب وراء لجوء الكثير من الرموز التاريخية إلى توظيف المهدوية وبيت النبوة لصناعة حالة اجتماعية عامة. إن شعار “الإسلام هو الحل” لا يحرك الناس بنفس درجة وتأثير الشعار المقابل له: “الإسلام في خطر”.
في الحقيقة لم يعد علماء السنة قادرين على التواصل مع سيكولوجية جماهير السنة وتحريكهم. وهذا راجع لعدم تكامل شخصية العالم من حيث قدرته على التأثير في الناس شعوريا ونفسيا، قبل تأثيره على عقولهم وأفكارهم العملية. وقد تُركت عملية التواصل مع الناس للواعظين الذين تقل لديهم بضاعة الأفكار والبرامج، ولا يحركون عقول الناس بقدر سعيهم نحو تحريك قلوبهم. إن قدرة علماء السنة الحالية على إحداث دائرة تأثير شعورية ونفسية واسعة باتت جد محدودة أو مفتقدة.
الخيبات السياسية والاقتصادية
اختفاء الفكرة الإصلاحية يعني غياب المقصد الأساسي من رسالة القرآن في الواقع. ويعني من الناحية الاجتماعية انتشار حالة ” الملل الكبير” في المنطقة.
إن أخطر ما يصيب العالم السني بكل مكوناته الآن هو حالة الضجر والملل الكبير واتساع دائرتها. حيث يكبر الملل بسبب تراكم الخيبات السياسية والاقتصادية والثقافية واليأس من إمكانية التغيير، ليتحول إلى حاضنة لمستقبل غامض وذي نزوع جذري في التعامل مع الواقع.
عندما يتسرب الملل إلى الإنسان يبادر إلى البحث عن الأمور الجديدة للخروج من حالة الضجر، فإن لم يجد الأفكار اشتغل بالأشياء وأصبحت هي عالمه.
إن حالة الملل من كل ما لم يعد يلبي طموحات الأجيال الحالية يدفعها إلى مزيد من الارتماء في أحضان التفاهة، ذلك النظام الذهني والسلوكي الذي تم تصميمه بإتقان بالغ ليكون نقيضا كاملا لحالة الملل والضجر، ومفرغا لكل نزوع نحو عملية التفكير. لكن الحقيقة هي أن عددا لا يستهان به من المثقفين والعلماء والسياسيين أصبحوا مصدر ملل وضجر كبيرين بالنسبة للناس. كلامهم ومواقفهم وتفسيراتهم، كلها ثقيلة على النفس مملة لأجيال تفوقهم من حيث الوعي بتغيرات العالم.
ولادة ردود الأفعال
يُمهد اختفاء الفكرة الإصلاحية إلى ولادة ردود أفعال تميل في الغالب مستقبلا إلى الشمولية والجذرية في الفكرة والتنظيم والسلوك والوعي الجماهيري. عندما تتوقف الرموز والمشاريع الإصلاحية عن الحضور الفاعل في الواقع، يسود جوّ من عدم اليقين والتشويش على مستوى المجتمع، مثلما هو الوضع الحالي في المنطقة. حيث يتم التقليل من قيمة عدد من المفاهيم مثل الواقعية والوسطية، بسبب النتائج السلبية السابقة المحبطة للمجتمعات، وبسبب المقاومة الشرسة لأي شكل من أشكال التغيير. بل تصبح السخرية من كثير من المصطلحات مثل الإصلاحية والتوافق والمصلحة أمرا شائعا. تماما مثلما حدث عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، حين تم الاستهزاء عالميا بمفهوم الحتمية.
بالفعل ففي لحظة معينة كان الاستهزاء في المنطقة بأفكار اليسار أمرا شائعا، بسبب التناقضات الحادة التي ظهرت بين الفكرة نظريا وتطبيقاتها العملية، بتحول كثير من رموز اليسار إلى رأسماليين وليبراليين كبار. حينها لم تعد الفكرة الاشتراكية فكرة إصلاحية في المنطقة.
إن دائرة الاستهزاء من السياسة والثقافة أصبحت أكثر اتساعا، بل إن الاستهزاء نفسه أصبح دينامية ومفهوما عمليا وجزءا من بنية التفكير والتعامل مع الواقع في المنطقة. الاستهزاء أداة وجواب اجتماعي ونفسي عن حالة الفراغ من البدائل الثقافية والسياسية المقنعة.
تمرّ الفكرة الإصلاحية للإسلاميين الآن عبر نفس دينامية التقليل من قيمتها وجدواها. وللأمانة فقد تخلى الكثير من الإسلاميين عن الفكرة الإصلاحية منذ زمن طويل، حتى قبل أن يتهمهم الآخرون بالتخلي عنها لفائدة التدبير اليومي، الذي نتج عن ولوجهم السلطة.
مرحلة ما بعد الأفكار الإصلاحية للإسلاميين هو الصورة النهائية الحالية لمشروع بدأ قبل قرن من الزمن، وخلص إلى حالة الاختفاء التدريجي الذي لا يمتلك أدوات تجعله قادرا على استرداد أنفاسه.
إن اختفاء الأفكار والاتجاهات الإصلاحية أكبر تكلفة من مواجهة المستقبل الغامض الذي ينمو وسط حالة الفراغ الحالي في عدد من الدول العربية من الأفكار الكبرى وصيغ التعبير الجماعي، بما يمهّد لتغذية الحالة الشمولية. حيث تصبح الدولة هدفا أساسيا بالنسبة لأولئك الحالمين الذين يؤمنون بغايات مطلقة.
وهي ناتجة في الغالب عن تطور الفكرة الشمولية. إن مزيدا من اختفاء الأطروحة الإصلاحية سوف يغذي الفكرة الشمولية.
التحولات في العشر سنوات الماضية
تعيش المنطقة العربية لحظة اختفاء للفكرة الإصلاحية، نتيجة فشل الجميع في تدبير التحولات في العشر سنوات الماضية، حيث تغذي حالة الفراغ القلق واللايقين والضجر، الذي يصيب الناس في المنطقة. لكن قبل أن تختفي الفكرة الإصلاحية السنية في الوقت الحالي وتتوارى عن الأنظار إلى حين، فقد سبق ذلك عملية اختفاء مصطلحات ومفاهيم خاصة بها.
حيث أصبحت كلمة التغيير ثقيلة وغريبة بالنسبة للكثيرين، في حين كانت هذه الكلمة رمزا وشعارا وبرنامجا عمليا للتيارات المختلفة التي نشأت في العالم العربي والإسلامي منذ القرن العشرين.
لم تكن كلمة التغيير مصطلحا نخبويا فحسب، بل لغة وحالة ذهنية للناس في المنطقة.
لقد بدأ اختفاء كلمة التغيير مع صعود نجم كلمة التدبير، التي حلّت محلّها. إن كلمة الصحوة الإسلامية لم تعد مستعملة منذ زمن طويل، رغم كونها المحرك الأساسي نفسيا وفكريا بالنسبة للإصلاحية السنية منذ قرن. لا أحد يجرؤ الآن على استعمال كلمة الصحوة، لمعرفة الجميع باختفائها وعدم مطابقة الوصف للواقع.
كاتب مغربي
“القدس العربي”