أستعيد شريط ذاكرتي المكور. أسحبه رويداً رويداً كيلا ينقطع. أحاول حفظ معالمه وصون التفاصيل الصغيرة التي يطمسها العالم الخارجي فتنكفئ على ذاتها قبل أن تثور صارخة أمام مظاهر اعتداء أو عنصرية تجاه اللاجئين. وهنا لا أعني أنني أنزعج فقط من العنصرية بل أنهار تدريجياً أمام روتينية العنصرية والتطبيع معها في لبنان. إذ تصفعني الذاكرة في لحظات كهذه متخطية الحاضر لتكون مدخلاً الى الذاكرة وتأكيد حتمية انهيار كهذا في المستقبل.
أسحب شريط الذاكرة بضع سنين الى الوراء الى ما قبل الانهيار والحرب السورية والحروب الأخرى الكثيرة التي عايشتها. سأثبته هنا في 12 تموز 2006/ المكان: جبل لبنان.
الأمان أضحى حينها أكذوبة فقررت عائلتي الرحيل. حزمنا الأمتعة ذاهبين إلى “رحلة قصيرة لبضعة أيام” كما قالت لي أمي قبل أن يكذبها حجم الأمتعة وعددها. لم أرفض الرحيل. لم يكن الرفض متاحاً تحت وطأة الاستعجال العائلي “غير المبرر” الذي لم أفهمه بعمر الخامسة لكنني فهمت أن البقاء أصبح من الممنوعات المهددة للسلامة. رد فعل أمي تجاه طلبي البقاء كان أشبه برد فعلها عندما أطلب منها تقطيع الخضار. البقاء أصبح يخيف أمي علي كاستعمال السكين. لكن بالنسبة الي، الرحيل كان الانسلاخ عن عائلتي الكبيرة التي تعودت العيش معها. والاستيقاظ على وجوه جديدة. والذهاب الى أماكن غريبة. ورؤية أمي خائفة طوال الطريق.
اليوم أدرك أن الرحيل ذاته لم يكن خياراً لو لم تحمل أمي جواز السفر الفنزويلي بوقت أرسلت الحكومة الفنزويلية طائرات لجلب رعاياها من “مناطق النزاع”. استقللت وعائلتي سيارة أجرة من عاليه الى مطار دمشق. حسبت أن لا مطار في لبنان. وفهمت أننا “في دولة أخرى” بسبب “اختلاف اللغة” ولأن أبي قال لي ذلك. في دمشق، رأيت صورة الرجل ذاته في جميع المقاهي والمطاعم. وحيث سمعت أناساً يتحدثون بلكنة تشبه لكنتنا لكنها بدت لي مضحكة بعض الشيء. لكن الأهم، أن في تلك المدينة اكتشفت أن الرحلة كانت مقررة لي ولأمي فقط. فكان الانسلاخ الاجتماعي الثاني عندما ودعت أبي في المطار.
قصتي هي قصة واحدة من سلسلة قصص كثيرة عن الناجين من حروب منطقتنا، التي تعتبر انتصاراً أو، في حالات أكثر خبثاً تعتبر نزاعاً. بينما أتذكر هول الحرب، هناك من يحتفل بها كنصر بيد أن جولة جديدة منها تهددنا أكثر من أي وقت مضى ونحن بأوهن حالاتنا وأقلها قدرة على المقاومة.
نعم، أنا لاجئة. وأفتخر بأنني كذلك. اكتسبت هذه الصفة منذ عمر صغير. أحملها معي مثلما أحمل هويتي. أتحسس لقضايا اللاجئين. أصغي إليهم. أدافع عنهم لأنني أعي أننا متشابهون. أعي أنني سألجأ عند أقرب مفترق طرق. وأعي أيضاً أنني لاجئة الآن في لبنان الذي يضيق بجميع لاجئيه ويعمل جاهداً لضمان “حق عودتهم للوطن”، إلا إذا كانوا فلسطينيين. ما زلت لاجئة لأنني أنهار أمام مظاهر التمييز اليومي لأنها تمس مباشرة اللاجئة بداخلي. أعاني من ثقل اللجوء في لبنان على اللاجئين وأعاني من تعرضهم للعنصرية ولا أعتقد أن المجتمع اللبناني سيتقبل اللاجئة التي بداخلي.
لا أعتقد أن أحدا سيروي حكايتي إن لم أروِها بنفسي. لذلك، ستبقى حرب تموز، كسائر الحروب، رواية المنتصرين والقادة. وسأبقى أنا، وكثيرون مثلي ممن لا يشعرون بنشوة الانتصار وفخر البطولة اليوم، مجرد أضرار جانبية لا تذكر أصلاً في رواية هذه الأحداث ولا تكتب قصصهم فينسون تجاربهم أو لا يجرؤون على سحب الشريط المكور.
الأخطر، أن يسحب كل منا ذاكرته الفردية- الجماعية على حدة. ستبقى اللاجئة بداخلي منبوذة في ظل ترحيل لاجئي لبنان والبلدان الأخرى وطالما أن رواية الحرب حكر على المنتصرين. اليوم، امتيازاتي مجدداً، سمحت لي بأن أكتب قصتي وبالتالي أتعايش معها قدر الامكان. لكن، من سيكتب رواية الآخرين؟ من سيكتب رواية اللاجئين؟ من سيكتب رواية القتلى؟
“درج”