بالنظر إلى تحديات مثل الغزو الروسي لأوكرانيا، وتعزيز الصين مكانتها بشكل متزايد على الصعيد العالمي، تأتي زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى الأراضي المحتلة، ومن ثم إلى المملكة العربية السعودية، وهي في عمقها محاولة لإعادة كسب الحلفاء التقليديين بما سيخدم مصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية على نحو أفضل.
رفض لقاء ولي العهد محمد بن سلمان، ثم رفع السرية عن النتائج التي تم التوصل إليها في قضية مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، وأعلان وقف الدعم للحملة التي تقودها السعودية في اليمن. هذا جزء مما تعهد به بايدن أثناء حملته الرئاسية، مؤكدا وقتها عزمه معاملة القادة السعوديين على أنهم «منبوذون»، لكن تغير المعطيات يبدو أنه متّصل بمواجهة مجموعة المشكلات المتعلقة بالحرب الروسية الأوكرانية، وارتفاع أسعار الطاقة، وأيضا باللازمة المعهودة، وهي التوترات الإقليمية المرتبطة ببرامج إيران الباليستية والنووية، والغاية الأبرز تبقى تعزيز أمن إسرائيل كقاعدة متقدمة لأمريكا في الشرق الأوسط، ويكفي ما أعلنه المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي جون كيربي، من أن زيارة بايدن، سيتخللها نقاش مسألة تعزيز التعاون الإقليمي، لاسيما في مجال الدفاع الجوي بين حلفاء واشنطن، ومن بينهم دول عربية وإسرائيل، في مواجهة طهران.
وفي الأثناء، الرئيس الأمريكي الذي يتطلع إلى إعادة تشكيل سياسة بلاده الخارجية في الشرق الأوسط، مع التركيز على مفردات للاستهلاك الإعلامي من قبيل تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان، في دول مثل السعودية، يفتخر بأنه سيكون أول رئيس يطير من إسرائيل إلى مدينة جدة بالمملكة، معتبرا أن «ذلك سيكون رمزا صغيرا للعلاقات والخطوات نحو التطبيع بين إسرائيل والعالم العربي». فصل قديم وليس بالجديد، الغاية منه بيع السلاح الذي يمر عبر تعزيز المخاوف من إيران، وتقريب المسافة مع إسرائيل، رغم تأكيده أنّه تم «عكس سياسة الشيك على بياض»، التي ورثتها إدارته. ومثل هذا المسار ليس بالمفاجئ، فمراكز إدارة القرار في أمريكا تدرك جيدا أنّ هناك مكاسب من التقرب للسعودية بدلا من عزلها. ومن أجل طمس الحق الفلسطيني في استعادة أرضه المسلوبة، يمكن أن تتلخّص المسألة في تحالف أمني مع دول عربية، ومحاولة ربط أنظمة الدفاع الجوي بينها في مواجهة الهجمات الإيرانية، هذا ما تسعى واشنطن وتل أبيب إلى تهيئة طريق تحققه.
يبقى أمن إسرائيل في أعلى اهتمامات الولايات المتحدة، في انتهاج مكشوف لسياسة لا تفرّق بين كونها سياسة حكومة أمريكية أو سياسة حكومة إسرائيلية
ألزمت واشنطن نفسها بضمان التفوق العسكري لإسرائيل، وتمكينها من القدرة على صد أي تهديد عسكري تقليدي، أو تحالف من الدول، وإسرائيل حليف استراتيجي للولايات المتحدة، مع أنّه لم يعُـد لها مثل ذلك الدور المُفيد الذي لعبته بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة. وقد فنَّـد ستيفن والت أستاذ العلاقات الدولية، حجّـة أنه يتعيّـن مساندة أمريكا لإسرائيل، باعتبار أنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، فديمقراطية إسرائيل التي يتحدثون عنها تتعارض مع القيم الأمريكية، لأنها تأسّست كدولة يهودية، ولذلك، تتعامل مع مواطنيها من غير اليهود على أنهم مواطنون من الدرجة الثانية، وتحرم ملايين الفلسطينيين الواقعين تحت سيطرتها من حقوقهم السياسية، ومع ذلك لم تحظَ أي دولة ديمقراطية أخرى في العالم بمثل ما تحظى به إسرائيل من دعم بالمال والسلاح الأمريكي، وكان بوِسع الولايات المتحدة انتهاج سياسة مستقلّـة إزاء عملية السلام، بدلا من أن تقوم «بمهمّـة المحامي عن مصالح إسرائيل». وتهدر فـرصة تاريخية بعدم مـساعدة الرئيس الفلسطيني محمود عباس، والتوصّـل معه لتسوية عن طريق المفاوضات، وتشجيع حكومات إسرائيل المتعاقبة على اقتطاع المزيد من الأراضي الفلسطينية، والاستمرار في سياسة الاستيطان التي تمنع حل الدولتين، وتنسف الفكرة من أساسها. وكان بوسع الولايات المتحدة أيضا، لولا قوة اللّوبي الإسرائيلي، انتهاج سياسة أكثر مُرونة، وأكثر فعالية إزاء إيران. وهو سلوك زاد في تفاقمه موقف النظام الرسمي العربي، الذي راهن على القطيعة مع طهران، بدل أن يفتح معها قنوات تواصل رسمية، ويؤسس لتعامل جدّي بين الدول بشكل يقطع الطريق أمام محاولات بعض الدول الغربية، وعلى رأسها أمريكا مراكمة العداء الوهمي، والدفع نحو الشحن الطائفي والصراعات المذهبية التي صوّرت إيران عدوّا وإسرائيل صديقا وحليفا استراتيجيا على قاعدة استثمار إمبريالي ترك الجسم السياسي للأمة كسيحا مهزوما، مع وجود أنظمة مفلسة من ناحية التفكير الاستراتيجي، لا تعلم إلى الآن أنّ نبرة العداء المتبادلة بين طهران وتل أبيب، والمستمرّة منذ عقود تخدم كلا الطرفين في توطيد نفوذهما الإقليمي. وهي استراتيجية فيها من الوشائج ما يدعم الإبقاء على الخطاب الدعائي ولغة التهديد والصراع بالوكالة كأدوات ذرائعية لتحقيق أهداف جيوسياسية.
بايدن يرى أنّ المنطقة تتحد من خلال الدبلوماسية والتعاون بدلا من التفكك من خلال الصراعات، ولكن ما فعلته أمريكا هو عكس ذلك تماما منذ حربها الهمجية على العراق. فهل سيواصل خيار الدبلوماسية بشكل مكثف كما وصفه، من خلال الاجتماعات لتحقيق أهداف واشنطن؟ يبدو أنّ نهج بايدن لا يزيد عن كونه استمرارا في سياسة إدارة الأزمة، ولا يُنتظر شيء منه في علاقة بحل الدولتين، الخيار الذي يتبناه منذ أن كان نائبا للرئيس. والصحف الأمريكية نفسها تؤكد أنّه لم ينجح في الضغط على إسرائيل بشأن مستوطنات الضفة الغربية، ولم يعرض مبادرات جديدة لاستئناف محادثات السلام المتوقفة منذ فترة طويلة، كما ترك قرار سلفه ترامب بالاعتراف بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان. وفي تقدير «واشنطن بوست» التي تحظى بتصريحاته المكتوبة، هو يحاول إيجاد توازن أكبر في سياسته الخاصة بالشرق الأوسط، مع التركيز على ما هو ممكن في جزء معقد من العالم، في وقت تُظهر فيه إسرائيل وبعض الدول العربية استعدادا أكبر للعمل معا لعزل إيران، «عدوهم المشترك»، والنظر في التعاون الاقتصادي.
يبقى أمن إسرائيل في أعلى اهتمامات الولايات المتحدة، وهو اهتمام جعل من كيان محتل أكبر مستفيد من المساعدات الأمريكية في كامل فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، في انتهاج مكشوف لسياسة لا تفرّق بين كونها سياسة حكومة أمريكية أو سياسة حكومة إسرائيلية، ولا يزال التفاعل كما هو رغم انهيار الحكومة الإسرائيلية، وتعيين يائير لبيد كقائم بأعمال الحكومة لحين تنظيم الانتخابات، وفي هذه المرحلة من التغيرات الاستراتيجية على مستوى العالم، وتشكل أقطاب جديدة على نحو يوشك أن ينهي نهائيا مرحلة الأحادية، تحتاج الولايات المتحدة إلى استقرار علاقاتها مع السعودية، البلد المؤثر في منطقة التعاون الخليجي، خاصة مع تطلع الصين بشكل متزايد إلى دول الخليج، والإرباك الذي أحدثته مواقف هذه الدول بشكل لم تكن تنتظره الإدارة الأمريكية، عندما لم تتجاوب مع جهودها في تشكيل إجماع دولي لعزل روسيا منذ بداية تدخلها العسكري في أوكرانيا.
كاتب تونسي
“القدس العربي “