أكثر ما لفت الأنظار في الزيارة هو وقوف الأسد في الجامع الأموي، مستمعاً مع زوجته إلى متخصصين حدثوه عن ترميمهم الخراب الذي صنعه جيشه، وهنا لن يجد أي مهندس عذراً يوضح سبب اختلاف ألوان حجارة المئذنة التي يعاد تعميرها، عن ألوانها قبل أن تقصفها دبابة متمركزة في منطقة السبع بحرات، سوى القول بأن هذه الحجارة الجديدة، قد جلبت لتعويض ما فُقد؟! اللون هنا ليس مسألة مهمة تقنياً، لكنه من جهة البلاغة كناية عن تراكم أثر السنين وأنفاس البشر الذين عاشوا بقرب الأحجار. فإذا لم يكن أبناء وأحفاد هؤلاء حاضرين، كيف ستتآلف مسام الحجر الصخري الجديد مع ذاك القديم، وكيف ستستعاد أصداء الآذان التي ترن في الفناء كما كانت حين كان أهله يأتون ويغدون؟
لم يكن الحلبيون الذين أطلقوا نداءات الاستغاثة للحفاظ على آثار مدينتهم التي تتعرض للدمار يأملون في العام 2013 أن يتدخل من أجلها أحد، فمن ترك الشعب فريسة لكل المذابح التي جرت قبل ذلك لن يهتم بأحجار قديمة وقطع أثرية. لهذا، قام أعضاء “الجمعية السورية لحفظ الآثار والتراث”، التي كانت تتبع آنذاك مجلس محافظة حلب الحرة، بالتعاون مع أفراد لواء التوحيد المسيطر على المنطقة، بفك المنبر وتغليفه ونقله إلى أحد المستودعات، مع عدد كبير من المخطوطات والكتب القديمة والأدوات الفلكية وبعض الوثائق والسندات المكتوبة باللغة العثمانية، إلى جانب لوحات قماشية أثرية كانت محفوظة في المكتبة الوقفية التي احترقت قبل فترة وجيزة، حيث أكلت النيران أكثر من خمسين ألف مطبوعة، بما فيها المكتبات الخاصة لعلماء الدين.
لقد واجهت عملية فك المنبر صعوبات جمة، أولاها الحفاظ على حياة من يقومون بتفكيك قطعه من دون أن يتسببوا بأذيتها، بينما كان قناص تابع لقوات النظام يطلق الرصاص على أي حركة يرصدها في المكان، ورغم كل خطوات الحيطة فإن أحد هؤلاء أصيب برصاصة في يده.
وبحسب ما نشرته الجمعية وما صرح به أفرادها للوسائل الإعلامية، فإن المنبر نُقل في المرحلة الأولى إلى “قبو مصرف بيمو” في المنطقة الصناعية بالشيخ نجار، التي طاولها القصف لاحقاً، ليتم نقل المخطوطات والكتب والمنبر بتاريخ 21 كانون الثاني/يناير 2014 إلى مكان وصفته الجمعية بالآمن نسبياً. وقد خمن كثيرون بأن هذا الكنز الأثري الذي لا يقدر بثمن قد وصل إلى تركيا، بينما أكد أحد الحلبيين ممن شاركوا في الأمر أن هذه الرواية غير صحيحة.
في مفارقة ذات دلالة، وفيما كانت الوسائل الإعلامية الأسدية تعلن ابتهاجها بزيارة الأسد إلى حلب، كانت مجلة تيليراما الفرنسية، تنشر في عددها الصادر في 13 تموز مقالة مطولة عن الجهود التي بذلها فريق ترميم أردني وبمشاركة عربية من أجل استعادة نسخة جديدة من منبر نور الدين (منبر صلاح الدين وفق التسمية الشعبية) في المسجد الأقصى، وإعادة تركيبه في مكان النسخة ذاتها التي احترقت في العام 1969 بعدما أشعل متطرف أوسترالي النار في المكان، في جريمة جرت تحت عيون قوات الاحتلال الإسرائيلي.
العلاقة بين المنبرين في القدس وفي حلب، مشهورة ومعروفة في الوعي الشعبي، إذ يقول العامة إنهما من صنع فنان حرفي حلبي أيام الملك العادل، نور الدين الزنكي، وذلك في سياق تأكيدهم على ترابط المصير بين حلب السورية والقدس الفلسطينية. ورغم أن التفاصيل التاريخية تقول ما تقول في الفرق بين المنبرين، وعدم صحة القول بتماثلهما، إلا إن ما يظنه العامة لا يبدو مضراً طالما أن القصد منه هو الإمعان في تأكيد الهوية الواحدة.
فإذا كانت الجهود المبذولة قد أثمرت إعادة منبر الأقصى إلى مكانه، بعد قرابة أربعة عقود من كارثة احتراقه، فإن إعادة منبر حلب إلى مكانه لا تبدو مرتبطة فقط بتوافر الإمكانات المادية والحرفيين، فالمنبر لم يتعرض للأذى، بل بالشرط السوري كله. فمَن حافظوا عليه لا يريدون أن يمنحوا الأسد انتصاراً إضافياً، وهو بالأصل لا يبدو مهتماً بعودة المنبر، ولا بعودة الحلبيين إلى مدينتهم، إذ لم يأت ذِكر المنبر في أي سياق راهن، ما يؤكد أن حب الأسد للمدينة، والذي عبّر عنه أمام الكاميرات، لا يمر عبر سكانها، وبالتأكيد لا يتصل بتفاصيلها التاريخية الأثيرة!